إذا قمت بإحصائية فعلية للمساجد منذ قدوم عهد الإنقاذ المشؤوم ليومنا هذا ستفاجأ بكمها وتناميها الهائل في ربع هذا القرن من الزمان. فبين كل مسجد ومسجد ستجد مسجدا. ولكن أنظرماهو حالنا اليوم. فبرغم كثرة هذه المساجد نصدم ونفجع بأن بلدنا، السودان، جاء كرابع أكثر الدول فساداً في العالم لعام 2013، بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية. خليك من الفساد، فنحن أيضا من ضمن العشرة الأوائل للدول الأكثر فقرا في العالم. وهذا لا يحتاج لإحصاية أصلا بلدليل الأكلات التي إبتكرها الفقراء من رحم العوز. وهذا دليل على أن الفساد والفقر وجهان لعملة واحدة. فكلما كانت هناك دولة فاسدة سيتفشى فيها الفقر. وبرغم الجهد الجهيد في أحاديث الإفك في تطبيق الشريعة، وأسلمة المجتمع، والمشروع الحضاري، وفصل جنوب الوطن لتكون بلد إسلامية، دولة صحابة يعني، رضي الله عن الأصليين، فهذا هو واقعنا الصادم الأليم. والمحزن أنك تسمع هذا الخبر المتكرر كل عام وكأنه طازا، ولا عزاء لنا ولا شماتة لأبلة ظاظا فينا. تخيل الميزانيات المتلتلة التي صرفت عليها، إن كانت حكومية أو خيرية أو خاصة؛ من مصاريف بناء، وتشغيل و مرتبات ومياه وكهرباء وفرش وغيرها. فمن المؤكد أن نسبة المساجد عندنا صارت عالية جدا، مقارنة بالبلدان المتقدمة علميا وسلوكا حضاريا في التعامل مع خلق الله (بشر، حيوانات، نباتات، طبيعة، كوكب، كون ..). كإحترام وحفظ حقوق ورعاية الإنسان، الطفل، الحيوان...إلخ. ولا نستطيع أن ننكر هذا، فكل البلدان، المقهور شعبها، التعيسة، تهرع حكوماتها المستبدة التي تسئ إستخدام السلطة وتجيد التعاملات السرية والرشاوي وتخرب المجتمعات، إلى الدول القوية التي لا تميز مواطنيها دينيا ويرتفع عندها ميزان الشفافية والمحاسبية. فتلجأ لهذه الدول لتحيا ولا تتحدى الموت ولا يحزنون، بل تنبطح لها عند المحن. و المشكلة ليست في المساجد، ولكن لأي غرض تبنى؟. فعلى الصعيد العام: لوجه الله أم ليقولوا على البلد إسلامية. وعلى الصعيد الخاص: إذا كانت لأفضل الأعمال إلى الله؟، فهناك ما أشد حوجة واهمية من المساجد. فالإسلام أولا لم يشترط للعبادة مبنى أو شكلا معينا، بل قد أعلى من شأن العبادة الخالية. فالأرض كلها مسجد، بحسب الحديث: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصلِّ،...). ومن السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه). صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقول الله عز وجل: ((ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)). فالصلاة في جماعة يمكن أن تؤدى في أي أرض، ولا يشترض أن يكون لكل حي مسجد منفصل به. بل إن كثرة المساجد في منطقة قد تفرق الناس للتلاقي في صلاة الجمعة بالذات. وقد تفرق المساجد المسلمون: فهذا مسجد أنصار السنة، وهذا مسجد صوفية، وهذا مسجد أخوان/كيزان، والدين والمساجد لله، فلا دعاء فيها إلا له لوجهه الكريم وحده. فإذا كانت غير ذلك فستكون مثل الذين إتخذوا مسجد ضرار، لدعاء أخرين مع الله وحده، ولتفرقة الدين، و لأذية الناس الآخرين. وهذه المظهرية فتحت الباب لكل أفاك أثيم يخلط الدين ليمرر مآربه الشخصية الدنيوية الفاسدة، ويجعل مساجد الله منابر لأجندة سياسية أخرى غير العبادة الخالصة. فمنهم من مقصده المثنى والثلاث والرباع ومنهم من بنى منزله بالتوازي مع بناء المسجد. وتجدهم يركزون في بناء المساجد، وعمارتها، دون المدارس والمصانع والمستشفيات والخدمات الأخرى، مسقطين سهوا أو عمدا أن هذه المرافق والمباني التي تبرز معنى العبادة الحقيقي وتعكس أعلى صور التدين الصحيح. ففيها يترجم معنى الدين، ومقاصده السامية من تكافل وعدالة إجتماعية، وتراحم بين خلق الله وحماية كرامتهم ورعايتهم كبشر. واليسير الذي قدموه من المرافق الخدمية يبطلونه بالمن والأذى ورئاء الناس. فبعد هذه الفضيحة، من العار أن نستمر في بناء مساجد ليس لها حوجة فعلية، لتعكس عنوانا غير واقعنا المدنس بالفساد. يجب أن نكون شجعان في مواجهة واقعنا الذي يكذب أصحاب الأوهام. المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. والمؤمن الواضح خير من الفاضح. وتحدثنا مرارا بأن الدين المعاملة. فكيف يكون المرء قويا من دون أن تكون له مرافق صحية وتعليمية تؤهله ليعمل بوظيفته بما تعلم ما ينفع الناس بدون علة تعيق أداءه. وكيف يمكن لجاهل يتسول حاجته ويعاني من الأمراض أداء عمله بالكفاءة المطلوبة. ولهذا الدولة كلها تضج بالفساد. وبيوت الله أصلا هي قلوب المؤمنين، كما في الحديث القدسي: ((ما وسعتني سماواتي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)). ويقول تعالى: ((قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين)) [الأعراف: 29]. والأرض كلها مسجد وطهورا. فالمهم ليس المسجد (مكان سجودك)، بل هو قلبك أولا، وأقم الصلاة وقل: جاء الحق وزهق الباطل. هذه ليست دعوة لوقف بناء المساجد، بل نداء لكل الخيرين الذين يودون بناء مساجدا يذكر فيها اسمه. فإذا كان في المنطقة ما يكفي من زوايا لصلاة الجماعة، ومسجد كبير لصلاة الجمعة فمن الأفضل أن تنشأ عوضا عنه، مدرسة أو مصنع أو مركز صحي أو مشفى أو دار للأيتام، أو غيرها من الأفعال الخيرية الأخرى. فإن فعلت، تكون قد حققت أسمى مقاصد الدين وتكون قد ساهمت في عتبة التغيير الاولى للقضاء على الفساد بهدم صرح الرياء. فالإهتمام بالشكل والبعد عن الجوهر، هو ما جعل هؤلاء الفاسدين، يستمرون في حكمنا غصبا، و يقودوننا إلى علالي الفساد. فقد خربوا المجتمع بالسلوكيات الرديئة والأفكار الفاسدة التي تهتم بالسفاسف و لا تصبو لإنتاج إنسان سليم، متعلم، معافى يساعد في بناء الوطن. فقد حرموه حق التعليم الصحيح، والعلاج، والعمل حسب الكفاءة، وحاربوه حتى في لقمة عيشه. وبالمقابل هم يرفلون في نعيم الفساد، ويشيدون المساجد التي يرفع فيها الأذان: الله أكبر، من كل فاسد ومفسد، وحي على الصلاة وحي على الفلاح يا مؤمن. ولكن لا حياة لمن تؤذن. فلو كانت في مالطا كانت ستكون أجدى. للأسف، ستسمع نفس الخبر السنة القادمة، إن شاء الله. ولا شئ سيتغير، إذا لم نغير ما بأنفسنا فيغير الله ما بنا. وإذا الماء يروب، الندل سيتوب و المتعودة دايما. و لنرجا إذن، الإصلاحيون المنشقون منهم، لترميم وتجديد المآذن، ومواصلة تشييد مآذن جديدة أخرى. [email protected]