انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة تدشين الكتب والروايات والقصص القصيرة والدواوين الشعرية في المنتديات الأدبية والمعارض حتى صارت ضرباُ طقوسياً مكملاً لعملية النشر وتتويجاً لجهد المؤلف الذي يسعد باحتفالية يرتادها نفر من عشاق الكلمة والمهتمين باقتناء الجديد ومتابعة ما تتضمنه الاحتفاليات من إفادات النقاد ونماذج من محتويات الكتب والدواوين فضلاً عن إنها فرصة طيبة للتسويق لمن يشاء الاقتناء لنسخة تحمل توقيع المؤلف. وقد فاتني لأسباب خارجة عن الإرادة قبل أسابيع حضور تدشين ديوان الصديق الودود الشاعر عالم عباس الموسوم (أوراق سرية من وقائع ما بعد حرب البسوس – كما رواها حفيد المهلهل ربيعة) بدار اتحاد الكتاب السودانيين، رغم إهدائه لشخصي الضعيف نسخة كتب عليها: (ذكرى عك الأيام انتظاراً لأيام أكثر إشراقاً). وكنت قد هيأت النفس بقراءة متأنية لقصائد الديوان بأمل الحضور (مذاكراً) لزوم التمتع بسماع قصائد هزتي بحق، إلا أن (القدم له رافع) ولم يشأ أن يحقق لحرصي الجاد رغبته في إطفاء شعلة التوق العنيد. ولا أود أن امتطي صهوة النقد الذي لا املك زمامه في زاوية قد لا تصلح تربتها للغوص في جوف الكلم البديع، ولكن الديوان وأغلب قصائده المكرسة لمنطقة دارفور ومأساتها أعادني لذكرى ثلاث سنوات أمضيتها بمدينة نيالا منتصف السبعينات حيث كان الشاعر عالم عباس والشاعر شمو إبراهيم شمو يعملان هناك فتوثقت علاقتنا وتفيأنا ظلال رابطة أدبية مكاناً للبوح بما تجيش به خواطرنا من الشعر والثرثرة. كانت جنوب دارفور وقتها تفيض خيراً ورخاءً وأمناً يرتوي من سماحة وطيبة أبنائها لدرجة انني لا أكاد أصدق ما يجري هناك منذ أعوام من دمار وانفلات وعداوات طالت حتى الأخ وأخيه مما جعل الشاعر يقف عندها في قصيدته (هابيل يرثي قابيل) التي جاء في مقطع منها (أجل / ما زلت أخي وعسى ولعل / تطيق فكاكا / من هذا الذل / ولكن ما ذنبي كي تقتلني / وأنا مثلك قدمت القربان / ترى، إن كنت مكانك، هل؟) في القصيدة التي صار اسمها عنواناً للديوان وهي طويلة النفس عميقة الغور مفعمة بعبارات التساؤل والمكاشفة والحسرة على سوء المآل، قال في جزء منها (هذا البناء وضعنا مداميكه والأساس معاً / وما زال في الوسع تشييده شامخاً / كما قد بدأنا، ولكن معاً / صحيحٌ على كتفنا كان عبءُ البناء الكبير / والدماء التي تتدفق في ساحة الحرب كانت دمانا، ولا بأس إن كان أغلبنا في الضحايا، وقود المعارك والجند، والهالكين). قلت أنني سأتفادى الغوص في متون القصائد ولكن مداد القلم سال بغير ما أردت، فلماذا لا يندلق القول وقد تابعت الشاعر عالم عباس منذ فوزه في مسابقة الشعراء الشباب أول السبعينات حين كنت وقتها أعمل بوزارة الشباب إلى أن دفع بديوانه الأول إيقاعات الزمن الجامح ومن بعده دواوينه الباذخة صوراً وأخيلة جامحة وشاعرية ناضجة وغنية بالمفردات المنتقاة وهي (منك المعاني ومنا النشيد، أشجار الأسئلة الكبرى، ماريا وأمبوي، من شمس المعشوق إلى قمر العاشق، انتظار الكتابة، وصولا إلى أوراق ما بعد حرب البسوس) علما بأن له تحت النشر ديواني الرقص على إيقاع المردوم و البرمكي الحريف في الكلكلة. ولعل سانحة التوقف عند شاعر يؤرقه ما يدور في دارفور من اقتتال وزعزعة وتهجير تجعلني اضم صوتي لصوته الذي علا لإسماع كل أطراف القضية آملاً أن تخمد نيران ما يجري هناك ليعود للغرب ألقه ونقاءه، فليس بقعقعة السلاح تنتزع الحقوق أو تستقطب التنمية وليس بترويع الآمنين ودفعهم للنزوح ما يؤمن للمنتصرين الصروح، وليس بإشعال نار العداوة يتبخر ما ترسب في قاع النفوس، ولكن بالتحاور والتوافق والإنصاف نخمد حرب البسوس. وشكراً لعالم عباس [email protected]