تجددت الدعوة إلى "السودانوية" خلال مؤتمر الهوية والحداثة وعقد الستينات والسبعينات الذي انعقد في الشارقة في أوائل أبريل المنصرم. وهي "لا دعوة" لأنها تصف حالة كوننا سودانيين لا غير. ولا غلاط في ذلك. ولكن شقها المزعج هو أن هذه السودانية لن تتأتي (إذا فهمت صاح) إلا بأن نسقط كل زعم بالانتساب إلى العرب أو أفريقيا. وهنا مربط الفرس. فكيف يمكن ل"سودانوية" اشتبكت تاريخياً مع العرب والأفارقة أن تخلع مواردها هكذا وتظل شيئاً ذا معنى؟ دعنا نقف عند أوجه الصعوبة التي تبطل السودانوية بدون مكوناتها الأصل. جاء ماجد بوب قبل فترة بأبيات للمرحوم حسن بابكر الحاج ( نائب البرلمان عن الحزب الاتحادي في 1965 الذي صوت ضد حل الحزب الشيوعي) في ميلاد إحدى بناته: يا بسمة الصبح العليل تهب من علياء نجد فكيف يستقيم فهم هذا البيت، والأهم من ذلك تذوقه، بغير اعتبار للموضع العربي المذكور: نجد؟ فالتعاطي مع هذا البيت لا يتحقق بغير "بنية العاطفة" ،كما يقولون، التي من وراء نجد العربية. ومثل هذا كثير: صبا بردا وضمين الطائف ونور الشام. ولكن من أنصع الحجج على بطلان تجريد السودانوية من مواردها العربية أو الأفريقية ما جاء في كلمة لخالد فرح عن "الذاكرة اللغوية". فذكر أن بنونة بنت المك قالت عن أخيها في الأغنية المشهورة إنه "أسد بيشة": أسد بيشة المِكَرْبِتْ قمزاتو متطابقاتْ وعلمت لاول مرة أن بيشة مأسدة في جنوب الحجاز. والمأسدة هي عرين الأسود. فبقاء هذه الصيغة (ويسميها الفولكلوريون الفورمويوليك" formulaic" وهي طوب العبارات الجاهز يبني بها الشاعر الشفاهي قصيدته) في الذاكرة العربية في السودان مما يُكذب الدعوة إلى تبني سودانوية مبرأة من العروبة أو الأفريقية. فلن نفصم هذه الذاكرة من هوية عرب السودانيين إلا بأمر صفوي عال يحتكر لنفسه التصرف في "بنية عاطفة" سائر الناس كيفما اتفق. وبدت لي استحالة دعوة السودانوية "للتخلص من موارد الهوية السودانية المتنوعة وبنية عاطفتها حين كنت أقلب قاموساً عربياً على الشبكة. ووقعت عيني مصادفة عند مترادفتين هما "الرصاء والرسحاء". سمعت بهما لأول مرة. ويعنيان المرأة ممسوحة العجيزة أو الكفل. وتساءلت: من أين لنا لفظة نوسع بها على لغتنا من جهة وصف الرجل والمرأة بغير الرجوع إلى المورد العربي في هذه الحالة؟ وكل مُعَرب يعرف أنه يحتاج إلى هذه السعة في اللغة. ولتواضع علم المترجمين في مادة العربية تجدهم ظنوا بها ضيق الماعون. فاحتجت مرة لتعريب "lilly white " ونضبت لغتي. ولولا أسعفني المتنبي ب "بياض يقق" لارتفعت في عيني الإنجليزية وسفلت العربية. وما صاح. [email protected]