صحيح أن غمار الناس من أمثالي ليس بمقدورهم تقديم الأدلة الدامغة على أن (فلان) هذا من المسؤولين والنافذين والغ في الفساد، أو أن (علان) ذاك يقبض العمولات نظير مبايعات أو مبيعات أو عطاءات أو خدمات ما، وذلك ببساطة لأنهم من الغمار المغمورين ممن لا قبل لهم بالتنقيب عن الأدلة المطمورة واستخراجها، ولكن الله جلت حكمته جعل لهم دلائل وإشارات وأمارات وعلامات أخرى تدلهم على ممارسي الفساد وقابضي العمولات، فالدنانير دائماً ما تأبى إلا أن تطل برأسها على قول الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي اعتبر في القصة الشهيرة مع أحد عماله مجرد إطلال الدراهم والدنانير دليلاً يستوجب المحاسبة والسؤال، وعليه كلما تطاول من كان مغموراً محدود الدخل رقيق الحال مثلهم إلى وقت قريب في البنيان، وبنى بالزوجات مثنى وثلاث، وامتطى من الفارهات ما شاء، وأطلت دنانيره المتلتلة بأعناقها الطويلة، حق لهم أن يظنوا فيه السوء، غير أن الأستاذ الطيب مصطفى وهو من تعلمون قربه من مطابخ القرار ومكامن الأسرار، لم يظن في واقعة من واقعات الممارسات الفاسدة، بل كان ظنه في مرتكبها من يكون، فقبل أكثر من ثلاث سنوات فيما أذكر وعلى أخيرة صحيفته (الإنتباهة) وفي واحدة من (زفراته الحرّى)، أثبت لنا الطيب محاولة أحد المسؤولين الكبار رشوة الرئيس بقطعة أرض مميزة، ثم بعد إثباته للواقعة وعلى طريقة (عندو أربعة كرعين وبقول باع وبضبحوا في الضحية)، قال إنه يظن أن هذا الراشي هو فلان ذكره بالاسم والمنصب، ولأنني لست الطيب وإنما أنا ممن يجوز ضربهم على بطونهم لأنهم بلا ظهر، لهذا لست في حل من ذكر هذا الراشي أبو عين قوية وجرأة متناهية... ومما أذكره في هذا الصدد أيضاً تلك الواقعة التي كان الرئيس حكاها بنفسه للإعلاميين السودانيين العاملين بالخارج، الذين شاركوا في الملتقى الثاني للإعلاميين السودانيين العاملين بالخارج الذي انعقد بالخرطوم قبل نحو ست سنوات، وكان حديث الرئيس يومها للزملاء الإعلاميين المهاجرين، شمل فيما شمل كلمة له عن الفساد والمفسدين وخراب الذمم والمرائين والمنتفعين، وفي هذا الإطار روى الرئيس قصة عن رجل قال إنه جاء إلى بيت الضيافة طالباً مقابلته، وأصرّ على ألا يفصح عن سبب طلبه للمقابلة، وعندما أبلغ أفراد الحراسة الرئيس بالأمر طلب منهم السماح للضيف بالدخول واستقبله الرئيس، وبعد لحظات الضيافة والمجاملة واستفسار الرئيس عن سبب الزيارة، أفاد الضيف (غير الكريم)، أنه أتى ليهدي الرئيس (3) مفاتيح ل(3) سيارات جديدة لنج وموديلات حديثة ذكرها الرئيس بالاسم، قال الرئيس إنه شكر هذا الضيف الإبليس-وإبليس هذه من عندي- على فعلته هذه وطلب منه أن يقدم هديته هذه إن شاء الله بعد أن يترك الرئاسة ويصبح مواطناً عادياً، وبعد.. إذا كان الرئيس نفسه قد تعرض لمثل هذه المحاولات، فما المانع أن تكون مثلها قد جرت وتجري مع آخرين دونه مقاماً ورتبة... التغيير