" 2 " صلة الماضى : فى المبحث السابق تناولنا مسألة تمويل الدولة للأحزاب السياسية فى السودان باعتبارها أداة أساسية للمشاركة السياسية وإحدى الدعائم المؤدية للتعددية بشكل فاعل فى البلاد . ولتعزيز دورها التعبوي و التأطيري و الثمثيلي في الحياة السياسية كما عرفنا الحزب كمؤسسة سياسية وإجتماعية حتى نبيّن الفرق بين الحزب والمؤسسات المجتمعية المدنية الأخرى , واشرنا أيضا وشاركنى فى الرأى الكثير من القراء فى أنه لايوجد حزب بالمعنى العلمى والسياسى له . بل هو عبارة عن تجمعات يعوزها الكثير من التنظيم والترتيب والضبط القانونى ونشر ثقافتها بين جماهير الشعب السودانى حتى لايلغى المواطن آليات نجاته من الإهمال والإزدراء خلف ظهره وينصرف إلى آليات تعوق مسيرته نحو التعددية فى الحياة السياسية التى يكون فيها الشعب هوالمسؤول الأول فيها عن صياغة ملامحها التأتى . فى هذا المطلب : - آليات تنظيم التمويل السياسى - كيفية تمويل الدولة للحزب - قانون التوالى والتمويل آليات تنظيم التمويل السياسى : فى كثير من دول الديمقراطيات العتيدة يتم تحييد المال وتنظم عملية التمويل السياسى بشكل سلس ودون تعقيدات أو إقصاء , لذا لجأ الفكر السياسى والقانونى فيها بوضع حزمة من التدابير يمكن إجمالها فى أربع محاور هى : " 1 " تقييد المصادر والصرف " 2 " ضبط أوجه الصرف " 3 " الشفافية المالية " 4 " العقوبات والجزاءات كيفية تمويل الدولة للحزب : هناك شكلان من اشكال التمويل تقوم بهما الدولة وحتى لاتستغرقنا مسألة التمويل هذه لأنها كبيرة ومتشعبة إلا أننا يمكن أن نقول أن هناك نوعان من التمويل هما : " أ " التمويل المباشر : ويقصد به أن تقوم الدولة بدفع مبالغ نقدية توزع على الاحزاب وفق ضوابط ومعايير ينص عليها بقانون - " ويعد هذا النمط من التمويل الأهم والأوسع إنتشارا فى العالم رغم أنه ما زال موضوع جدل عنيف وخلافات حادة , والغريب فى الأمر , أنه بدأ لأول مرة فى بلد صغير ونائى وهو الأورغواى , فى أمريكا اللاتينية التى طبقت هذه الصيغة منذ عام 1928 م , ثم ما لبثت أن إتسع نطاقه ليعم دول أوروبا الغربية قاطبة " – د. محمد أحمد سالم , تمويل الاحزاب فى السودان , ص 10 . وكالعادة قسم هذا الإتجاه الناس إلى مؤيدين ومعارضين لتمويل الدولة للنشاط السياسى كل له حججه وأسانيده : " أ " حجج المؤيدين : إستند هولاء فى حججهم الداعمة لهم على النقاط التالية الموضحة أدناه : - تمويل الدولة المباشر يدعم إستقلالية السياسيين ويحول دون الفساد ويعزز الشفافية المالية , إذ انه يقدم دون قيود شبيهة بقيود التمويل الخاص . - يكفل هذا الخيار , مبدأ تكافؤ الفرص والتنافس العادل والحر بين المرشحين والأحزاب ويحميهم من ضغوط المانحين أفرادا كانوا أو جماعات . - يوفر تمويل الدولة الإستقرار للأحزاب السياسية بسبب طابعه المؤسس المنتظم , كما أنه يؤمن دخلا ثابتا يمكن الإعتماد عليه , فى تصريف سياسات الحزب تجاه عضويته وبرامجه . " ب " حجج المعارضين : إحتج أغلب المعارضين لتمويل الأحزاب بشكل مباشر , بل لاقت هذه الخطوة نقدا عنيفا , إنطلاقا من رفض مبدئى لتحميل الخزينة العامة , أو دافعى الضرائب تكلفة الدعم الرسمى للأحزاب . " ب " التمويل غير المباشر : وهو الصيغة الثانية من صيغ تمويل الدولة للأحزاب السياسية , ويعنى التمويل غير المباشر أن تقدم الدولة دعما عينيا بدلا عن النقدى . ويدخل فى هذه الصيغة الإعفاء من الضرائب والرسوم وتوفير إمكانيات البث فى المحطات والقنوات المملوكة للدولة أو الخدمات التى تحتاجها الأحزاب , كما حدث عندنا فى الإنتخابات العامة الأخيرة , كذلك تقوم الدولة بمنح عقارات ومبانى للأحزاب لتحميهم من ضغوط المانحين أفرادا أو جماعات , وذلك تسهيلا للممارسة الديمقراطية فى الدولة . إلا أنه وبشكل عام يتم تمويل الأحزاب السياسية حيث تحصل التنظيمات السياسية من الدولة على مخصصات سنوية يتم تحديدها انطلاقا من عدد الأصوات التي نالتها هذه الأحزاب والتنظيمات خلال الانتخابات الأخيرة وتتوزع على أربعة فصول سنوية أي كل ثلاثة أشهر. ويتم تصحيح هذه المخصصات انسجاما مع معدلات التضخم . ولكن هناك أحزابا سياسية لها حضور فى الساحة السياسية والإجتماعية وتتمتع بقاعدة جماهيرية كبيرة , لكن لاوجود لها فى البرلمان لأحد الأسباب منها مقاطعتها الإنتخابات مثلا بالتالى تضحى حاجتها إلى دعم الدولة أكبر من حاجة تلك التى لها وجودا تحت قبة البرلمان لأن الحزب ملتزم تجاه جماهيره وبرامجه الذى وعدها به فى الغالب الأعم وليس ببرنامج الحكومة . - قانون التوالى والتمويل : لم يتضمن قانون التوالى السياسى 1998 م أية إشارة لدعم الدولة للأحزاب , لكنه إشتمل على أحكام تتعلق بالمصادر المالية للحزب , كإشتراكات الأعضاء وإستثمارات الحزب , وأعتبر أموال الحزب أموالا عامة , تخضع للمراجعة . و يتعين على أى حزب نشر بيانات بموارده ومصروفاته كل عام , كما حظر أية أموال من مصادر أجنبية . أما القانون الحالى للأحزاب السياسية فقد نص فى المادة " 21 " على أن تكون الموارد المالية للحزب من : " أ " إشتراكات الأعضاء " ب " التبرعات والهبات من الأفراد والهيئات والشركات الوطنية غير الحكومية على أن تكون معلنة ومسجلة لدى مجلس الأحزاب السياسية " ج " ريع إستثماراته فى الأوجه التى يحددها القانون " د " أى دعم تساهم به الحكومة وتمت إجازته ضمن الموازنة العامة . كما ورد فى المادة " 27 " من ذات القانون جواز إعفاء الحزب من الضرائب وفق الأسس التى يحددها مجلس شئون الأحزاب السياسية هناك بعض التحفظات إزاء هذا القانون والتى يمكن أن نوردها فيما يأتى تبيانه : " 1 " إن القانون الحالى أجاز ولأول مرة , أن تقدم الدولة دعما للأحزاب السياسية , على أن يجاز الإعتماد المالى الخاص بذلك الدعم فى الموازنة العامة .. تعليق : - إن قانون التوالى ووضع على عجل لإحتواء أزمات الأحزاب التقليدية التى خرجت بشق الأنفس بعيد الإنتفاضة من محاسبة الشعب السودانى لها فى تجاوزاتها التى إرتكبتها فى حقه فى الحقبة المايوية و التى لايهمها اصلا إن قدمت الدولة دعما للأحزاب أو لم تقدم لأن تلك الأحزاب لها إستثماراتها داخل وخارج السودان فضلا عن الهبات العابرة للقارات , إذ أن المسألة كانت برمتها تطويقا لتلك القوى التى خرجت من أقبية نظام مايو ومحاولة سريعة لإيجاد البديل الجماهيرى لها كما حدث فى ثورة أكتوبر 1964 م , كأنما يقول لنا قانون التوالى إن ذهبت مايو أو لم تذهب فقوانينها باقية , وبنيت بعد ذلك القوانين المجرمة للقيادات السياسية الشريفة فى السودان ولايزال الآن تلاحق من قبل أجهزة الدولة المضللة بل أوصلت بقوانينها تلك لمرحلة الجلد كإذلال للقيادات السياسية لأن مبدأ الجلد كعقوبة , ألغى حتى فى المدارس , بينما الكثير من الرموز السياسية التى نبتت فى مايو تعتقل ويصحب ذلك ضجة إعلامية كأنها قيادات جماهيرية لها وزنها فى الشارع الذى إكتوى بعذابات تلك القيادات التى فلتت من العقوبة إبان الإنتفاضة وكأنها تعاقب الشعب السودانى الآن بأثر رجعى وهذا ما نرفضه بقوة .لأن فشلها ملازمها حتى وإن عادت بنا إلى قوانين حمورابى . وعلى الشعب ألا يخدع فى هذا العدد الضخم من الأحزاب فهى لم تخرج من عباءة الأحزاب السياسية التقليدية التى أضرت بالعملية السياسية منذ فجر الإستقلال الأغر والتى جئ بها لتسحب بغباء سياسى قوى لاترغبها إطلاقا معتقدة أن المسألة ما هى إلا جمهرة من المريدين والمشايعين وزخرف إعلامى , دون مراعاة للمتغيرات الدولية والإقليمية وإنعكاساتها على واقع السياسة السوداني . كذلك لم تراع التطورات التى طرأت على العمل السياسى فى البلاد والقوى الجديدة التى تحاول أن تجعلها تحت عباءتها بإستمرار . - وأيضا أن المادة " 27 " من قانون الأحزاب السياسية لم تفعّل أو تخصص أية إعتمادات ضمن الموازنات السنوية التى أجازها المجلس الوطنى خلال كل تلك السنوات الماضية التى إنقضت منذ صدور القانون عام 2007 م . والأخطر من ذلك أن مجلس شئون الأحزاب السياسية لم يمارس صلاحياته التى تخولها له المادة " 30 من ذات القانون والتى أجازت له إصدار لوائح : ( لتنظيم المسائل الإدارية والمالية والفنية بما فى ذلك مالية الأحزاب )- السابق ص , 28 . - كما أن القانون لم يقيد أوجه الصرف , بل تركها للنظام الأساسى واللوائح الداخلية للحزب , ولم يحدد اية سقوف للصرف على الحملات الإنتخابية ولا للتبرعات . مما يعنى أن هناك مركزية بعيدة ومصادر لدعم هذه الأحزاب حتى تغرق قيادات الأحزاب فى الفوضى الإدارية والمالية , وبالتالى الخلافات داخلها وهى الأقرب إلى دوائر التمويل تلك بغية تمييع قراراتها السياسية والسطو عليها فيما بعد . كذلك أن القانون لم يفصل حتى فى حالة إعتماد موارد لدعم الأحزاب من قبل الدولة فى الموازنة ,معايير توزيع ذلك الدعم , وهل هو مرتبط بالإنتخابات , أم هو دعم عام لتسيير نشاط الحزب خلال العام , وهل يرتبط ذلك الدعم بالثقل البرلمانى والإنتخابى للحزب أم يتم على قدم المساواة . ملاحظة : يلاحظ القارئ أو المتابع الفطن الآن أن الساحة السياسية فى السودان تتخللها ربكة سياسية مفتعلة , بعد الإنتخابات لتمرير قوى سياسية لاشأن لها بالعمل السياسى لتقرر قى مصائر الناس وهى تدخل الساحة السياسية محدثة ضجة إعلامية مثل المصارعين الأمريكان , بالذات اولئك الجعجاعين منهم والذين يسقطون حال تسلقهم حلبة الصراع الفعلى بل كثيرون منهم يفرون تاركين الحلبة تحت حيرة الحكم والجماهير . نواصل .. [email protected]