أحد الأصدقاء وقد إختاره المولى الى جواره ..عليه الرحمة ..كان عائداً في منتصف الثمانينيات بعد غربة يرتادها لأول مرة بعيداً عن الوطن لمدة عامين متصلين .. قال لي كنت أظن أن كل أهل السودان ساجدهم في إنتظاري على أرض المطار لفرط شوقي لهم وشوقهم لي ! لم يغشى العاصمة البتة و بإصرار شديد .. بل أخذ سيارة أجرة مباشرة الى الجزيرة ..و أنفاسه اللاهبة تتقطع تعطشا لأحضان الديار وتسابق دولايب تلك السيارة في محاولة لطي الزمن الذي بدأ ثقيلاً متثائباً وكأن رياح المسافة تتعمد معاندة أجنحة تلك اللهفة العارمة ! على بعد كليومترات قليلة من قريته التي لا حت له مآذنها وجد شخصاً من أهل منطقته يقف في متنصف الطريق الترابي .. معترضاً سكتهم ملوحاً للسيارة لكي تقله قبل المغيب .. توقف له فحياه .. وطلب منه الركوب.. مد الرجل يده في برود وسأل صاحبنا.. إن كان قد حضر الليلة البارحة .. عقد قران بنت فلان الفلاني..؟ قال لي أصابني إحباط إعتصر دواخلي وخيب فورة المشاعر الدافقة التي كانت تنتابني .. ظناً مني أن كل حجر في قريتنا يعلم أنني غائب وينتظر عودتي .. مثلما أنا متلهف للقاء الكل..! تلك الحادثة في زمان كانت الغربة تشكل فيه حدثاً مثيراً وعنصرا مؤثراً في حياة الذين يعينهم المغترب في دقائق حياتهم من أفراد اسرته وحتى إمتداداتها البعيدة .. بل وكان سنداً للوطن في كل منعرجات زمانه المتكالبة جراء خطل السياسات الحاكمة أو غضبة الطبيعة المتحكمة ..! بالأمس كان زميلي في رحلة أوبتنا هذه .. يحاول ان يدفع قيمة مشوار لسائق سيارة الأمجاد وسط الحاح رفاقه من مغتربي الداخل الذين أصروا على السداد تقديراً لظروفه.. فلما علم السائق بانه من مغتربي الخارج .. أعاد اليه المبلغ .. وقال له ضاحكا ً دع أصحابك هؤلاء ليقوموا بالسداد فإنت مغترب مسكين وهم أكيد أكثر ترطيبة عنك ! شتان بين أن تغيب عن الوطن وهو محمول في دواخلك .. وأن تغيب عليك الكثير من المستجدات أثناء غيبتك عنه اياً كان مداها ومدتها ..فتجد نفسك غريباً عنه حتى بعد أن تطأ قدماك ترابه وقد عدت اليه ..لتكتشف مقدار صغر حجمك في ركام تلك الظواهر التي قد لا تجد لها تفسيراً في مسلك الناس الذي تبدل ونظرتهم للحياة التي شابها الكثير من التلون .. فلا تجد أولئك الذين تركتهم وظلت صورتهم محفورة في صفحة ذاكراتك التي توقفت ريشتها عند رسم تلك الصورة القديمة لمجتمع بات دائخاً في دوامة الحياة التي لا تتوقف إلا لساعات ربما يكون كابوس الهلع فيها من جولة الغد هو في صحو الليالي البائسة أكثر منه حلماً في نوم بالمعنى العميق ! ما أقسى ان تجد زماناً غير زمانك .. في مكان هو مكانك الذي لن تنكره مهما كان إندهاشك حيال ما طرا عليه من تبدل ولا فرار من قبول محدثات الليالي فيه .. لان لكل زمان .. مكانه الذي قد تتشكل جغرافيته وتبدو غريبة عليك وإن كانت لازالت تراوح نقطة إرتكازها على اليابسة ! [email protected]