-1- فجأة قرر الأمين ود الفضل ترك البلد وقريته في ريفي السير شمال دنقلا والذهاب إلى عمه ودعلي الذى يعيش ويعمل في مدينة كوستي بمحطة الوابورات النهرية، تاركا خلفة أخوته الصغار وأمه وأبيه الذي يمتهن صناعة العناقريب والبنابر والسروج المصنوعة من خشب الحراز المتكاثف شجره على النيل، أراد الشاب أمين أن يغير نمط حياته كسائر أهل البلد الذين يمتهنون الزراعة وفلاحة الأرض، وبالرغم من إلحاح والده عليه ليبقى بجواره حتى يساعده في صناعته والحواشة التي يفلحها، إلا أن أمين كان قد عزم على الذهاب إلى كوستي ليستقل بنفسه في عمل هناك بجوار عمه، ولم يملك أباه وأمه إلا أن يباركا قراره والدعاء له بالتوفيق في سفره، حيث قال والده مصبرا أمه على فراقه: لا تقلقي عليه يا أم أمين، على الأقل تجربة يسلكها بنفسه إن وفقه الله خيرا بقي وإستمر هناك بجوار عمه الذى لن يقصر معه، وإن خاب رجاه وتعثر عاد إلينا وإلى عمله معي هنا في البلد. حزم حقائبه وركب لوري المحيلة مودعاً أهله وأهل البلد إلى مدينة كريمة ومن هناك إستقل القطار الذي أخذه إلى حيث وجهته في كوستي على النيل الأبيض، حيث إستقبله عمه وأبنائه في محطة السكة حديد وأخذوه برفقتهم إلى منزلهم ليبقى واحدا من أهل الدار بين ثلاثة أولاد رزق بهم عمه وزوجته ست البنات. مع مرور الأيام ألف الأمين المدينة وأهلها وطقوس حركتهم وساعده عمه بوجود عمل له في محطة الوابورات النهرية التي يعمل بها، وسرعان ما تنبه إلى الحركة التجارية النشطة التى تجوب النيل الأبيض عبر البواخر النيلية بين كوستي ومدن الجنوب ورأى كيف يكسب التجار والعاملين على تلك البواخر مالا ودخلاً وفيراً، فشاور عمه عن رغبته في إمكانية العمل على إحدى تلك البواخر، أثنى عمه على الفكرة ولكن كان عليه الإنتظار حتى تتاح فرصة سانحة وفراغ وظيفة في إحدى البواخر، ومع الأيام وجد ضالته وركب أول باخرة متجهة إلى جوبا وهي محملة بالركاب والبضائع الكثيرة التي يحتاجها أهل الجنوب. في الطريق تعرف على صغار التجار وكبارهم والذين يعملون على الباخرة ويحملون تجارتهم الخاصة أيضا، وشاهد في ميناء جوبا منظر الإستقبال الرهيب الذي لاقاه القادمين من المندكرو( أهل الشمال) ببضاعتهم . إن قدوم الباخرة إلى جوبا هو بمثابة عيد لأهل الجنوب وذلك بما تحمله من خير لأهل المدينة، يفرحون ويغنون ويرقصون في الميناء بطقوس خاصة ألفوها مع قدوم كل باخرة إليهم، وفي جوبا طاف بالمدينة وأسواقها وخبر بأنها تعتمد كلية على بضائع الشمال وإن جل الذين يعملون بالتجارة هناك تجاراً شماليين كما إن معظم الذين يجلبون البضاعة إلى المدينة هم شماليون أيضا،، عندها قرر مع نفسه حتمية دخول هذا السوق التجاري المربح حتى وإن بدأ بسيطا عبر أشياء قليلة على باخرته التي يعمل بها. تواصلت رحلات الأمين إلى جوبا عبر الباخرة التي أصبح جزءاً من طاقمها وكان في كل سفرية يحمل بعضا من المعروضات القليلة ويبيعها للتجار هناك ورويدا رويدا تعرف على بعض تجار مدينة كوستي واصبح يشتري منهم بضاعة على أن يسدد ثمنها بعد أن يعود من رحلته إلى الجنوب وساعده عمه في ذلك كثيرا نسبة لمعرفته بتجار المدينة وثقتهم فيه وما زاد الثقة تسديده لثمن البضاعة فور عودته من جوبا، وسنة بعد أخرى توسعت تجارته وإغتنى أمين ود الفضل من عمله على الباخرة وتجارته المرافقة. -2- بعد سنوات قضاها الأمين متنقلاً بين كوستيوجوبا عاد إلى قريته في السير برفقة عمه وأولاده غانما سالما فزوجه أهله إحدى حسان البلد، وبعد أن قضى شهرا لم يشا أن يحمل عروسه معه إلى كوستي نسية لظروف عمله، ومع السنوات خلف صبيانا وبناتاً. بعد فترة طويلة من العمل على الباخرة قرر أن يستقر ويفتتح محلا تجاريا في مدينة جوبا كسائر التجار الشماليين هناك خاصة وأنه عرف الكثيرين من أهل المدينة وتعرفوا عليه، إفتتح محلا تجاريا للمواد الغذائية وسط المدينة بالسوق وتواصل مع أهلها وتواصلوا معه، وخلال فترة وجيزة أصبح محله هو القبلة المفضلة للكثيرين من سكان جوبا وذلك بفضل المعاملة الحسنة التي كانوا يلقونها منه والتيسيرات في طريقة الشراء والبيع، حيث كان الكثير منهم يبادلونه منتجاتهم بأحتياجاتهم الضرورية، إضافة لطريقة الدفع المؤجل لذلك فقد كثر زبائنه وتوسع محله الذى شمل كل الإحتياجات وأصبح هو الأشهر في سوق المدينة التجاري. إنصهر الأمين ود الفضل مع أهل المدينة وإمتزج بهم، تعلم لغتهم وأصبحت هي لغة التخاطب التجارية، وأصبح واحداً منهم وتواصل مع الجميع شماليين وجنوبيين بما فيهم جنود العسكر الحكوميين الذين كانت تزدحم بهم المدينة، والكثير من الجنود كان يتعامل معهم بطريقة الدفع آخر الشهر ولم يكن يتضايق من ذلك بل كان يعتبر أن ما يقوم به من خدمات للجميع هو من صميم أخلاقيات عمله الذي يجب أن يؤديه بنفس راضية، وما تلك المحبة التي كان يكنها له الجميع إلا نتيجة لتلك السماحة والطيبة وإلفة التعامل مع البسطاء الذين لا يملكون ما يدفعونه ثمنا لإحتياجاتهم الضرورية وأولئك الذين يملكون، وهكذا مرت الأيام بالأمين في جوبا التي قنع بأستمرارية حياته فيها حتى تزوج بامراة ثانية من أهل الجنوب وأنجب منها أطفالا أصبحوا بالنسبة له دنياه التي رضي بها وعاشها في سعادة وراحة من البال والضمير، خاصة وأن زياراته للبلد قد طالت بعد أن توفي والداه ورفض أم أولاده مرافقته إلى الجنوب في حياة والديه مرارا وتكرارا، غير أن دوام الحال من المحال...!! وبالرغم من السلام الذى عم البلاد شمالها وجنوبها فترة من الزمن بعد توقيع إتفاقية أديس أبابا إلا أن الكساد الأقتصادى الذى عم البلد كلها أثر كثيرا في حركة التجارة بين شطري البلد جنوبها وشمالها خاصة بعد تقسيم الجنوب الى ستة أقاليم بدلاً من الإقليم الجنوبي الواحد والذي أدى إلى ظهور حركة الجيش الشعبي الجنوبي الذي تمرد على حكومة نميري. -3- غير أن أمين ود الفضل ومع تلك الندرة التى طالت إحتياجات المدينة كان حكيما في تعاملاته مع الأهالى فقد ظل كما عهدوه به يعاملهم سواسية، منحازا إلى جانب البسطاء قبل الذين لديهم قدرة الشراء من أي مكان آخر، لذلك فقد كان يحافظ على الإمدادات التى تصل إليه عن طريق الباخرة على فترات متباعدة مؤكدا على ضرورة أن يتلقى الجميع من تلك الإحتياجات على قلتها، لكن جنود الحكومة كان لهم رأي آخر غير ما خطط له أمين ود الفضل...!! أولئك الذين كان يتعامل معهم بسماحته بطريقة الدفع المؤجل، أرادوا في زمن التحاريق وشح المؤن أن ينقلوا الكمية الأكبر من بضاعته ومحله إلى معسكرهم ليخزنوها غير عابئين بحوجة الأهالي والزبائن الآخرين من سكان المدينة، إستغلوا طيبته غصبا عنه ولو كان كارها، أتوا إليه ذات مرة ليعطيهم ثلثي البضاعة التي بالمحل بالدفع الآجل لكنه رفض عرضهم، أرادوا أن يدفعوا له ثمن البضاعة بالكاش أيضا رفض طلبهم، وحجته في ذلك أن الجميع في حوجة لهذه الإحتياجات في هذا الوقت العصيب وتستطيع الحكومة أن تدبر لجنودها ما يحتاجون، وقد كان قوله هذا كافيا لكي يعلنوا عليه الحرب والعداء....!! ذهبوا وفي المساء أتاه زمرة منهم في زيهم العسكرى مستغلين عربة لوري تابعة للجيش والمطر يتساقط بغزارة،، قالوا له نريدك أن تعطينا بضاعة المحل كلها وسوف نأتيك بقيمتها آخر الشهر.....!! وما أن تلكأ بالرفض حتى أمطره ثلاثة من الجنود بوابل من الرصاص أردته صريعا في الحال مضرجا في دمائه، ثم قام الجنود القاتلين بنهب المحل جميعه وتركوه أرففا خاوية، لم يرحموا سنه ولم يرحموا جثمانه المضرج بالدماء في ميتته البشعة، بل لم يواروه الثرى وحملوا أشياء المحل وقفلوا إلى معسكرهم راجعين، وكأن أمين في رقدته تلك وهو مضرج في دمائه كان ينزف ويردد: جوبا مالك علي أنااا الليلة شلتي عيني أنااا، وكأن السماء كانت تبكيه بغزارة الهطل الهتون.........!!!! أتى الأهالي الذين كانوا يتفرجون على هول ما يجري حولهم وحملوا الجثمان المسجى في دمائه وقبل لحظات كان جسدا حي يمشي بينهم ويبادلهم حراك يومهم بعدد السنوات التي عاشها بينهم بكل طيبته وخلقه وحسن تعامله حتى مع الذين ظلموه وقتلوه وسلبوا منه حق الحياة....!!! حملوا الجثمان والمطر يتساقط بغزارة، غسلوه وواروه الثرى في ليل حزين في غيابات النهاية المؤلمة، وكأن جبل لادو والسحابات والضبابات الهتون كانت تبكي النهاية، وكأنها كانت تبكي في الأمين ود الفضل سماحته وطيبته مع الأهالي الذين عاش بينهم بالحب فبادلوه ذلك الحب حبا بالمشاعر والود والإحترام المتبادل بحميمية التواصل والتلاقي، وكأنها كانت تلعن وتبكى ليل الظلم الذي حاق به من أناس كان هو اليد العليا بينهم في سماحة الخير والعطاء.......!!!! ...أبوناجي... [email protected]