أقرب إلى القلب: I . هذا كتاب فريد، يقترب من التاريخ بقدر، مثلما يبتعد عنه بقدر.. تخصص د. عابدين في التاريخ المعاصر كما تعمق في دراسات تاريخ السودان المعاصر. غير أن د. عابدين امتهن الدبلوماسية بعد تجربته الأكاديمية في التدريس في جامعة سعود بالرياض وجامعة الخرطوم في السودان. لعلّ تجربته الدبلوماسية سفيرا في لندن، هي التي ألهمته النظر في العلاقات الإنسانية بين بعض السودانيين وبعض البريطانيين الذين خدموا في البلاد خلال فترة الحكم الثنائي التي كادت أن تبلغ الستين عاما. ولعلّ تفرّد السودان من بين مستعمرات التاج البريطاني، هو ما قد يفسر طبيعة العلاقات الانسانية التي نشأت على غير ما عرفنا عن علاقات "المستعمِر" "بالمستعمَر". وإني أعرض هنا إلى طبيعة مصطلح "الاستعمار" نفسه، ثم أحدث عن بعض أحوال السلك السياسي البريطاني الذي أدار السودان خلال تلكم السنوات. حديثي إذن يحوي ملاحظات وربما إضافات هنا وهناك.. II. المصطلح: الإعمار أم الاستعمار أم الكولونيالية ؟ : جاء في التنزيل العزيز: في سورة هود:( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (61)؛ أَي أَذِن لكم في عِمارتها وجعَلَكم عُمَّارَها. وجاء في تفسير الطبري: مفهوم استعمركم فيها كما ورد ذكره سابقاً، أي أسكنكم فيها أيام حياتكم وجعلكم عُمّاراً فيها. المعنى القرآني هو الأمر الربّاني بالإذن لإعمار الأرض، وذلك أمرُ يحمل مضامين إيجابية، بل خيراً كثيرا. غير أن مصطلح "الاستعمار"، كما ساد استعماله الأوسع لعقود طويلة، يعني سيطرة القويّ على الضعيف، يحتلّ أرضه احتلالاً ليأخذ خيراتها ويقهر أبناءها قهراً ليسلب الإرادة. يحمل مصطلح "الاستعمار" في طياته، معنىً سلبياً واضحاً، يستبطن ظلماً لا خيراً. أجده -وإن رسخ استعماله-مصطلحاً غير دقيق. وهنا أميل إلى استعمال المصطلح الإنجليزي "الكولونيالية" colonialism كوصفٍ دقيق للحالة التي استولى فيها الأقوياء من شعوب الحضارة الغربية، على أقاليم الضعفاء(colonies) في القارات الأخرى المستضعفة، واستغلوا ثرواتها وقهروا شعوبها وسلبوا إرادتها. غير أنّ مفكرين كثر، منهم "إدوارد سعيد" (1935-2003)، تعمّقوا في تحليل ظاهرة "الكولونيالية"، وأبانوا خواء الادعاء الذي أسمته الحضارة الغربية: "عبء الرجل الأبيض"، الذي يفترض مركزية تلك الحضارة، إزاء الحضارات الأخرى، وهي ترى القارة الأفريقية – مثلا-خلوّاً مِن أيّ ثقافة.. لكأنهم قدِموا من "مركزهم" يحملون مشاعل التنوير والحداثة والعصرنة، إلى سكان "الهوامش"، المعذبين في الأرض على قول الجزائري الفرنسي فرانز فانون. في كتابه "الثقافة والإمبريالية" قرأ "سعيد" سرديات روائية استقرتْ في الذائقة العامة للغربيين (كما للشرقيين بسبب التمركز الأوروبي الإنجليزي في هذه الحالة)، مثل رواية "منتزه مانسفيلد"(1814) ل"جين أوستن"، و"كيم"(1901) ل"روديارد كيبلنغ"، و"قلب الظلام" (1899) ل"جوزيف كونراد". . وأضيف أنا هنا رواية "الطليعي الأسود" (1952)، للبناني "إدوارد عطية"، خريج جامعة أكسفورد، الذي نشاء في السودان وكان معلماً في كلية غوردون، ثم موظفا للعلاقات العامة والمخابرات في مكتب السكرتير الإداري. في مثل هذه الكتابات-يقول "إدوارد سعيد"-دفنتْ بين طيات الخطاب الروائي والقصصي، معانٍ مشبوهة ضد الشعوب المقهورة، ليس سهلا كشف تحيّزاتها المدسوسة ولا تنميطاتها الخفية، نظراً لكونها تنتمي إلى "الكتابة المتخيلة" والأعمال الجمالية، ولا تصنف ضمن الكتابة في التاريخ أو الأنثروبولوجيا. . هذه إشارة عجلى لما طرحه "إدوارد سعيد" عن ظاهرة "الاستشراق"، وعن نقده لظاهرة "الكولونيالية"، في كتابٍ له بالإنجليزية بعنوان "الثقافة والإمبريالية"(1978)، وقد نقله المترجمون إلى العربية بعنوان "الثقافة والاستعمار". و"الامبريالية" في معناها القاموسي هي نشر الدولة الأقوى نفوذها على البلد الأضعف، وبهذا تكاد أن تماثل في المعنى مصطلح "كولونيالية". ولن أسهب هنا فيما كتب الرجل، فهو مفكر شديد الذكاء وعظيم الحضور، في الحياة الثقافية والفكرية العالمية. . ولقد لاحظتً أن د.عابدين استعمل مصطلحي "الاستعمار" و"الكولونيالية" وكأنهما مترادفان لمعنىً واحد. أرجو أن لا يُظنّ أن تلك حذلقة لفظية عارضة، إذ يتصل ذلك بالمدلولات اللغوية لمصطلحات تبدو متشابهة وتعقيدات ترجمتها من لغة إلى لغة أخرى، ليس مكانها هنا. ولكني قصدتُ ضرورة توخّي الحذر في الطروحات التي تأتينا من الغرب وليست كلها خالية من الغرض. إن المعنى القرآني في كلمة "الاستعمار"، يرجّح الإيجابي، فيما المعنى الأوسع له والذي اعتمدناه ربما لسلاسته ليشير إلى "سلبية" ظاهرة الاحتلال والسيطرة القسرية، وذلك ما ينبغي أن يحيلنا لاعتماد "الكولونيالية" مصطلحاً محايداً، يحتمل الإيجابي كما السلبي. لكن نجد د.عابدين نظر إلى بعض إيجابيات لم يُتح للمؤرخين رصدها، وبينها العلاقات الإنسانية الاستثنائية التي نمتْ على هامش العلاقات الهيكلية بين المُحتل المُستغِل (الإنجليز) والطرف الضعيف المُستغَل (السودانيون)، وهي موضوع كتابه الفريد هذا.. على سبيل المثال فإنّ نظام التعليم الذي خُطّط للسودانيين، برعاية الإدارة البريطانية في "بخت الرضا"، في مقارنة عجلى مع نظام التعليم الذي خُطط في "كلية فيكتوريا" في الاسكندرية، التي حرمت على طلابها التكلم بأية لغة غير اللغة الإنجليزية داخل الكلية، هيَ ما يؤكد بجلاء العنصر الإنساني الإيجابي في ظاهرة "الكولونيالية" التي عرفناها في السودان. ثمّة إشارات إلى ذلك وردت في كتاب د.عابدين.. III. طبيعة السلك السياسي البريطاني في إدارة السودان (1899-1956): ثمّة ملاحظتان هنا عن طبيعة السلك السياسي البريطاني الذي حكم السودان لنحو ستين عاما انتهت باستقلال السودان عام 1956. الملاحظة الأولى تتصل بوضع السودان الاستثنائي وفق اتفاقية الحكم الثنائي لعام 18999، إذ لم يكن السودان يُحسب مستعمرة مثل بقية مستعمرات التاج البريطاني، إذ لمصر شراكة ولو شكلية في إدارته. والملاحظة الثانية تتصل بالمعايير الخاصة المتبعة في اختيار موظفي الخدمة السياسية في السودان من بين خريجي الجامعات البريطانية العريقة والمرموقة، واعتمادهم للعمل فيه، واختبار قدراتهم للعمل في منطقة شدّة مثل السودان، ووفق اشتراطات محددة. ونقلاً عن ناشر كتاب "دونالد هولي": "نقوش الخطى على رمال السودان" (لندن،1982 )، أورد د.عابدين مقتطفاً مهماً، أوضح فيه الوضع الفريد للإدارة السياسية البريطانية في السودان، وهو وضع أشبه بحكم ذاتي في إطار الامبراطورية"، كنظام انتج رجالا لعبوا فيما بعد أدوارا هامة في الشرق الأوسط وأيضا افريقيا كدبلوماسيين وسفراء وحكام في بعض المستعمرات: - بول بلفور سفيراً في العراق فالأردن فتونس، وقد كان في السلك السياسي لإدارة السودان.. - كاردين سفيراً لدى اليمن ثم السودان، وقد كان في السلك السياسي لإدارة السودان.. - دنكان سفيراً في المغرب ثم زامبيا، وقد كان في السلك السياسي لإدارة السودان.. - السير جيمس روبرتسون حاكماً عاما في نيجيريا، وقد كان السكرتير الإداري في السودان وينوب عن الحاكم العام .. - وليام لوس حاكما لليمن الجنوبي، وقد كان مستشارا لحاكم عام السودان.. - هارولد ماكمايكل حاكما عاما في تنجانيقا (1933)، وقد كان يشغل منصب السكرتير الإداري في السلك السياسي لإدارة السودان.. لكأنّ العمل في السودان يعدّ مختبراً لصقل القدرات، ومعهداً خاصاً لاكتساب الخبرات، يمهّد لتكليف موظفي السلك السياسيّ في السودان لمهام "كولونيالية" أخرى في بقية المستعمرات البريطانية. نلاحظ أنّ كلّ الإداريين الذين خرجوا من السودان، تولوا مهام أكبر من مهامهم في السودان، كما هو واضح ممّن أوردنا بعض أسماءهم في القائمة أعلاه. . IV. ملاحظتان أخيرتان، ليستا على قدرٍ من الأهمية، لكني رأيت الإشارة إليهما . الملاحظة الأولى تتصل بما سها فيه قلم د.عابدين، في هجاء بعض أسماء الإنجليز، مثل اسم الحاكم العام للسودان بين 1925 و1926: جيفري آرشر، حيث ورد الاسم "آرثر"، والأصح كما نعلم هو "آرشر" (Geoffrey Archer). الملاحظة الثانية أرفعها لأخي وصديقي الأستاذ الياس فتح الرحمن الذي أخرج الكتاب آية في التصميم الجميل الجاذب، لكني وددتُ أن لو وفر لنا هامشا أعلى الصفحات وأدناها، فذلك أيسر للنظر وأسهل للإمساك بالكتاب. . إنّ كتاب د.عابدين فريدٌ في موضوعه، فالتاريخ الذي لا ينبغي إغفاله هو مجمل تلك التفاصيل الصغيرة التي-وإن اندستْ في الوقائع-قد لا يرصدها المؤرّخ الأكاديمي. إنهُ كتاب جريء في موضوعه، وأحثّ الجميع، أكاديميين وسواهم من عامّة القراء، على الاطلاع عليه. +++++ الخرطوم -15 فبراير 2017 [email protected]