كتبت هنا من قبل على نحو «عابر»، أن قناة سودانية 24 تبشر بطفرة نوعية في البث التلفزيوني الفضائي، ولكن وبعد شهرين من متابعة معظم ما تبثه القناة في أوقات ذروة المشاهدة، أستطيع أن أهتف بضمير مستريح، بأن هذه القناة فتح جديد في العمل الإعلامي في السودان، فأول ما يميزها أنها تخاطب العقل، ومن ثم لا وجود محسوسا للغناء غثه وسمينه في خريطتها البرامجية. استغفر الله فلديها برنامجان فقط مخصصان للغناء والموسيقى، أحدهما يقدم جرعات غنائية قصيرة دسمة، والثاني يستضيف مطربا بمعية مبدعين في مجالات مختلفة، يتبادلون الحوار، دون ان يحتكر مقدم البرنامج الثرثرة كعادة قنواتنا الأخرى، حيث لكل من يجعر وينقر لقب من شاكلة الامبراطور والأمير والسلطان، والقامة، وصاحب البصمة المميزة. أجمل ما في سودانية 24 أنها تحسن الظن بالجمهور، ولا تفترض أنه ما لم يتخللها غناء، فسينفض الجمهور عن برامجها الحوارية، ويترك مقدم البرنامج «قائما» ينفخ في الهواء، ومن ثم لا تتردد عبر شاشتها العبارة المبتذلة: فاصل غنائي ثم نواصل الحوار. وأصلا يا سادة إذا كنتم تعتقدون أن الحوار في حد ذاته غير جاذب، فما «لازمته»؟ أم أنكم تفترضون أن المشاهدين «هايفين»، وما لم يتم حقن كل برنامج بجرعة من الغناء الغثاء فلن يحظى بمتابعة؟ ودعكم من الأسماء ذات الشنة والرنة التي تقود البرامج الحوارية في القناة (الطاهر التوم وبابكر حنين وضياء بلال إلخ)،فهذه القناة نجحت في مجالات لم تنجح فيها قط قناة تلفزيونية من قبل، ألا وهي مثلا شد المشاهد الى الكتب ذات القيمة عبر برنامج «الوراق» الذي يقدمه الأستاذ غسان، وجعل برنامج ما يجي في الصحف (مانشيتات سودانية) أكثر دسامة من نشرات الأخبار التي تتحدث عن افتتاح وزير الحياة البرمائية لبركة لسباحة السلاحف في أم كدادة، وكيف أن التشكيل الوزاري الجديد وشيك، برغم ما يثيره أعداء الوحدة الوطنية من «تشكيك»، فبعكس ما تفعل بقية القنوات التي تفرش صحف البرش ب4000 قرش أمام مقدم البرنامج، ويلتقط كل هنيهة واحدة منها كششششن، ويكون اختيار العناوين والمضامين على حذر طلبا للسلامة، بعكس ذلك يقدم برنامج مانشيتات سودانية أهم العناوين في نحو 12 صحيفة، على الشاشة، ثم يختار أعمدة الرأي التي تحوي أفكارا تستحق المناقشة، ويخضع الموضوعات المهمة للبحث والنقاش، مع ضيف متابع للأحوال، الجاري منها والراكد. والأعجب من كل ذلك أن برنامج «نكهة خاصة»، الذي يعني بأمور الطبخ يحظى بمشاهدة عالية، واعترف بأنني تابعت كذا حلقة منه (لأن العرق دساس، وصاحبكم محسي ولولا حبة التعليم التي فاز بها لكان اليوم طباخا في الميناء البري في كوستي) وشد انتباهي أنه يقدم طبخات عناصرها ومكوناتها متاحة في الأسواق، بل وأن بعض الأشرار (شراركم عزابكم) يتصلون بالبرنامج لطلب طرق إعداد الأعزب لأكلات غير معقدة (يبدو أن العزاب لم يعودوا يستطيعون طبخ حلة «القطر قام» بعد أن قام قطار أسعار اللحوم بسرعة صاروخية) ويتميز البرنامج بحركة كاميرا تجعل المشاهد يرى عن قرب (كلوز أب) كيف يتم إعداد مختلف الأكلات، في وجود خبيرة تغذية تحدث المشاهدين عن القيم الغذائية لتلك العناصر، وما إذا كانت هناك محاذير للمصابين بأمراض بعينها في تعاطي هذه الأكلة أو تلك (يبدو أن نساءنا يعتقدن أن البيتزا وجبة حضارية، فلا تخلو حلقة من البرنامج من سؤال عن طريقة إعدادها، ومن جانبي اتبرع لهن بالوصفة التالية: اصنعي قراصة خفيفة وقبل أن تستوي ضعي عليها شيئا من الطماطم والبصل والجبن، وبالهناء والشفاء). تحية خاصة لنجوم قناة «بلد في شاشة»، العاملين على الكاميرات والإضاءة والصوت والغرافيكس والمنتجين والمخرجين المنفذين، فهم من أعطوا هذه الشاشة ألقها المريح للعين لتأتي البرامج الخالية من الكولسترول والثلج المكسور والمدشدش، جاذبة للعقل، وشكرا للقائمين على أمرها لأنهم يقدمون لنا وجبات لا تسبب عسر الهضم والفهم. الصحافة