أولاً، مجرد الحديث، حول أمر ما، يعني أن ذلك الأمر مهم وقائم ويستحق المناقشة؛ وجميل جداً ورائع أن تخصص قناة فضائية حلقتين لمناقشة حاضر الزراعة ومستقبلها في السودان، سلة غذاء العالم، مثلما فعلت قناة السودانية 24، هذه القناة التي ولدت بأسنانها، فلها منا كل الشكر والتقدير والإشادة. ومن جانب آخر، يبدو أن النجاح الذي حققته شركة الراجحي وشركة نادك، فيما يتعلق بإنتاج القمح في السودان، قد ألقى حجراً في البركة الساكنة. وما يستفاد من النقاش المستفيض بين المختصين في الشأن الزراعي أن هذه البلاد تزخر بنخبة من العلماء وأصحاب التجارب والخبرة والمهتمين بالعمل في مجال الزراعة وما يرتبط بها من سلسلة القيمة المضافة أو الصناعات التحويلية التي تزيد من قيمة المنتج أياً كان! ومن هنا نستطيع القول بأن ما قامت به هذه القناة، هو فعلاً أمر مطلوب؛ خاصة في هذه المرحلة التي يكثر فيها الحديث، ليس فقط عن الأمن الغذائي على المستوى الوطني، وإنما هنالك الآن مبادرات يقودها رؤساء وملوك دول عربية لتحقيق الأمن الغذائي العربي، وهذا في حد ذاته شعار يستوجب الانتباه والتنسيق والاستعداد أو الإعداد المسبق من كافة الأطراف والجهات المعنية. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن تجربة الراجحي ونادك هي تجربة رائدة وقابلة للتطبيق؛ إذا توفرت معطيات ومدخلات إنتاج حديثة وإرادة مهنية وكفاءة إدارية عالية. ومن نافلة القول الحديث عن أن التجربة قد أثبتت فعلاً أن تضافر الجهود العربية يمكن أن يحقق لهذه الأمة قدراً من التكامل الاقتصادي في كثير من المجالات وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بإنتاج الغذاء، بشقيه الزراعي والحيواني، وكما يقال من لا يملك قوته لا يملك قراره. ولكن للأسف الشديد، لم تعط تجربة الراجحي ونادك أي ميزة إضافية للإنتاج والدخل القومي في السودان، لأن إنتاجهما ليس للتصنيع ولا للاستهلاك المحلي وإنما للتصدير كمنتج خام سواء في ذلك القمح والعلف. ولكي تعم الفائدة لماذا لا تدخل نادك مثلاً صناعة اللحوم والألبان في السودان؛ حتى توفر فرص عمل أكثر للجانب السوداني، وتعطي منتجاتها قيمة مضافة وتساعد في نقل التجارب والتدريب إلى المواطن وتحقق أرباحاً إضافية في ذات الوقت. ولنا في مصنع كريمة مثال جيد إذ يقوم بتصنيع وتعليب الخضر والفواكه، وكلها منتجات عضوية، خالية من أي ملوثات أو مواد كيمائية ضارة بصحة الإنسان، ويمكن أن تباع في السوق المحلي أو تصدر وهي، في كلا الحالتين، تحقق قيمة مضافة للمستثمر وتدر دخلاً إضافياً للمزارع المحلي أو للخزينة العامة. وقد دار النقاش أيضاً حول التمويل، الذي يمثل حجر الزاوية، في الإنتاج الزراعي، وفي هذا الصدد أعتقد أن تجربة الإنتاج التعاقدي، كما أطلق عليه، بين المستثمرين وصغار المزارعين، في منطقة خور أبو حبل، تمثل مخرجاً رائعاً وعملياً لكل الأطراف المعنية والمشتركة في هذه العملية، علماً بأن أكثر الحاضرين قد أشاد بالتجربة التي يمكن أن تعمم فعلياً، ليس في مجال الزراعة فحسب، بل يمكن تطبيقها في إنتاج الثروة الحيوانية أيضاً. وفي كل الأحوال، لابد من توفير الرقابة الفنية والإرشاد الزراعي والبيطري، وقد فشلت الجهات الرسمية في ذلك، حتى الآن؛ مما أدى إلى خروج مناطق كثيرة من دائرة الإنتاج إما لرداءة المنتج أو لارتفاع التكلفة وانخفاض السعر أو لعجز المزارع عن نقل وتسويق منتجه أو لعدم تطوير إنتاجه؛ نظراً لانعدام التوجيه والمتابعة من الجهات المختصة. وهذا السبب هو ما جعل بعض المشاركين في النقاش ينادي بعدم ترك الشأن الزراعي "للأفندية" وموظفي القطاع العام من الذين تنقصهم الخبرة، وإنما ينبغي أن نعطي القوس باريها؛ بمعنى أن يوكل هذا النشاط إلى من يتقنه ويحرص عليه من القطاع الخاص، مع التنسيق الكامل مع الجهات الرسمية ذات الاختصاص من أجل القيام بالمهام الضرورية المطلوبة من أجل ضمان نجاح واستمرار عملية الإنتاج بدءاً من الزراعة والتعبئة والنقل والتخزين ومن ثم التسويق إقليمياً وعالمياً. وهذا أمر غاية في التعقيد والأهمية، علاوة على أنه يتطلب توفير الدعم الفني واللوجستي والأمني والمالي من حيث التمويل وإنشاء التجهيزات المطلوبة على أحدث طراز. وبصراحة، لا مستقبل لاقتصاد السودان بدون الزراعة بشقيها، النباتي والحيواني، ولذلك فإن مجرد النقاش في هذا الشأن يعد تحركاً في الاتجاه الصحيح، ولكن ينبغي تجنب الشعارات الجوفاء، والتركيز على الخطط والبرامج المدروسة؛ إذ لم تعد الزراعة ضرباً من المخاطرة، بل هي صناعة تقوم على معطيات محددة؛ لكي تحقق مخرجات مرجوة. ويجب ألا ننسى أن ثمة فرصة مواتية الآن في السوق؛ خاصة الإقليمية، وهنالك طلب متزايد على المنتجات الزراعية السودانية التي أثبتت التجربة أنها عضوية وخالية من الملوثات سيما وأنها تسقى بماء نمير وتزرع في أرض بكر طيبة؛ ولكننا بحاجة إلى أدخال الصناعات التحويلية والتقانة حتى تكون لمنتجاتنا قيمة مضافة! أخيراً، السيد وزير الزراعة بولاية شمال كردفان، هلا زرت أهلك في الخيران، فقد خسروا موسم الطماطم بسبب الآفات. [email protected]