تعجبني المقولة الخالدة لعبقري المسرح الفرنسي جان أنوي (1910-1987م): "الفن ضرورة قصوى وآهٍ لو أعرف لماذا؟" ولأني أدّعي انحيازي بكل فخر لقبيل الفن والإبداع مستمعاً وقارئاً ، فإنّ شيئاً من حديث قصير في الفن هنا يصبح عندي من الضرورات.. والضرورات تبيح المحظورات! لا ترجموا السر قدور ..إبنوا له تمثالاً: إلتقيته أول مرة في القاهرة التي جئتها عابراً في العام 1999م. محدث بارع لا تمل سماع طرائفه. مبتسم وكأنه لا يحمل من هموم الدنيا قيراطاً. جلست أستمع إليه يحدثني عن الحقيبة - منذ أن وفدت من كبوشية متأثرة بمدائح ود اب شريعة وود الماحي إلى أن شبت عن الطوق في بقعة الإمام ومدني السني. في السر قدور تجتمع خصال السوداني الأصيل: يستقبلك بالحضن هاشاً، وتطربك ضحكته "الصادحة" حتى لتضحك أنت إثر الضحكة المدوزنة وليس للطرفة التي حكاها. مشاهدتي لبرامج فضائيات زمن الخيبة ليست جيدة. بل أعترف أنها ضئيلة جداً، ليس لأنّ الذين يعدون هذه البرامج أو الذين يقدمونها ليسوا بمستوى العمل الإعلامي العصري- حاشا لله. لو قلت هذا لتطاولت على الموهبة التي تولد في كل جيل. إنّ من بين هؤلاء الإعلاميين والإعلاميات من تطفح موهبته/ا لمجرد أن تسمعه وتشاهده على الشاشة. لكن ايديهم مكبلة ويمشون فوق تربةٍ من الألغام، ترصد عين النظام وأذنه حركاتهم وسكناتهم. نظام يرعبه الإعلام الذي وضعه تحت إبطه. هذا إعلام لا أجدني مجبراً على الإكثار من تعاطيه. ففينا من بلاوي هذا النظام ما يكفينا ! لكني أعترف أن السر قدور أسعدني وأسعد الملايين من الناس بتقديمه لمن يتوسم فيهم/ن النبوغ من المطربين والمطربات الشباب في بلادنا عبر محاكاة مشروعة لنوابغ فن التطريب في صفحات من تاريخ بلادنا. البعض من أولئك الشباب انتفعوا ببرنامج السر قدور (أغاني وأغاني). وإذا كان بعضهم ضعيف الموهبة، فاللوم لا يلقى على مقدم البرنامج! أقول هذا لأنّ من أسوأ ما تتسم به بعض المجتمعات الخاملة: تخذيل من يحاولون وضع طوبة في البناء أو إيقاد شمعة في الظلام. تلك مجتمعات لا تعمل ولا يرضيها أن يعمل الآخرون. فكلما كثرت شعبية برنامج (أغاني وأغاني) خرج علينا من قال فيهم السيد المسيح عليه السلام حين سأله بعض حوارييه ماذا يفعلون بزانية: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !! لا ترجموا الشاعر والممثل السر قدور ..أبنوا له تمثالاً قبل أن ترددوا مثلكم الخايب: الله لا جاب يوم شكرك! مامون سوار الدهب..هل أخبروك أن الطريق شاق وطويل؟ كلما رأيت شاباً أو فتاة ذا/ذات موهبة في ضرب من ضروب الفن في بلادي ملأتني عليهم الشفقة. أشفق عليهم من الإطناب والمديح غير المسئول. ففي بلادنا يخلقون من الموهبة أسطورة في أسبوع أو شهر أو موسم. وقلّ من يحتمل الثناء والمدح. أقول هذا لأني استمعت مثل الكثيرين للشاب حسن الصوت مامون سوار الدهب وهو يقدم نماذج لأغنيات سودانية مختلفة، فأدهشتني طبقات صوته التي يدوزنها حسب حالة النغمة. يغني بارتياح وكأنه يغني ليطرب ذاته، ولعمري هنا يكون الأداء الجميل. شهدته يغني في فيديو. كان يغني بدون ضجة آلات الأغنية الشهيرة: (أنا في هواك ضحيت).. تأكد لي أنني أمام موهبة كبيرة. لكن السؤال المخيف أطل أمامي: يا مامون سوار الدهب..هل أخبروك أن طريق الفن شاق وطويل؟ وهل حدثوك أنك لكي تكون مطرباً بقامات من تحاكي أغانيهم عليك أن تزود نفسك بالعلم في عصر العلم، وبالعمل الشاق لكي تعطي العالم أغنياتك لا أغنيات الآخرين ممن سبقوك؟ أدعو لك ولكل المواهب من جيلك أن يعمر الله بفنكم قلوب الناس فنبني وطنا من المحبة والتسامح ، بدلاً من وطن تشحذ فيه العفاريت سكاكينها لتذبح عصفور الفن الغريد. أقول هذا لأني أجاهر في هذا الشهر الفضيل بحبي وعشقي للفن ، فأنا من شعب فنان وعاشق وطروب. ولأني أدين بعقيدة استقبل الأحباب فيها نبي الرحمة خارج المدينة بالدفوف واللحن الطروب : طلع البدر علينا من ثنيات الوداع فلو كانت الموسيقى حراماً لما استقبل خير البشر بالدفوف والغناء. مشكلة العقل الظلامي أنه لا يرى ولا يسمع ولا يحس إلا ضجة الكوابيس التي تمليها عليه عوالمه الموغلة في القبح. وإذا كان الظلاميون أفلحوا على مدي 27 عاماً في زراعة الخوف والموت المجاني الرخيص في بلادنا فإننا قادرون ونحن نطمربذرة الفن أن نغرس بذرة الحب والسلام فيه ليعود وطناً لجميع من فيه دون تمييز. 4 رمضان المعظم 1438 للهجرة. فضيلي جمّاع