حسب منصور خالد عبد الله علي إبراهيم رحل إلى دار البقاء من دار الفناء المرحوم عدنان الخاشوقجي صاحب الأعمال السعودي. ونقول بدار الفناء تجاوزاً لان مبلغ علمنا أنه، في تعامله مع السودان خلال فترة الديكتاتور جعفر محمد نميري، ظن أن لا موت، ولا بعث، ولا نشور. ومن أفضل من أرخ لفساد الرجل وعزته بالدنيا وحرصه على مباهجها، بجانب محاكمات سدنة النظام العلنية في 1985، هو الدكتور منصور خالد في كتابه "السودان والنفق المظلم" (1985). ولقد ابتلانا الله بكتبة كذبة يذيعون عفة نميري الذي لم يبن بيتاً. وكأن بناء البيت أو القصر هو شرط الحاكم الفاسد حصرياً. وفساد بعض الحكام في غير شهوة العقار. وجاء منصور بصور من هذا الفساد عن أسفار للرئيس السابق بين قصور الخاشوقجي، وطائراته السخية، ويخته "نبيلة" (على اسم بنته). وقال عن تلك القصور إنها تعبق بذاكرة "الخورنق والسدير". وسنرى من تلخيصي لبعض ذكر منصور للخاشوقجي المرحوم في كتابه بالإنجليزية أدناه الثمن المهين الذي دفعه السودان لقاء اشباع الرئيس لتلك الشهوة. المصفاة المتوهمة إلا في رؤوس الفسدة، 1973 ترافق في أوائل السبعينات ظرفان: تواتر ارتفاع سعر البترول بعد حرب أكتوبر 1973 وازدياد الطلب السوداني للنفط مع توسعه في التصنيع والتنمية. وقامت جهود حثيثة بين وزارة الخارجية والمالية والصناعة لتوفير أمرين. 1) مدد نفطي من إيران والسعودية بقروض ضمان منهما.2) التوسع في مصفاة بورتسودان (نشأت في 1964) لأنها استنفدت طاقتها. ولقي مشروع تجديد المصفاة سنداً من السعوديين. وفي فبراير 1974 اتفق الجانب السعودي والسوداني بعد التفاوض على إنشاء مصفاة صغيرة في بورتسودان كمشروع مشترك. كما اتفق الطرفان أنه متى صارت مصفاة بورتسودان الأصل، وهي ملك شركة شل، سودانية شارك السعوديون فيها. ومتى صارت السعودية شريكاً في المصافي ضمن السودان النفط. وعلم الخاشوقجي (ويشير له منصور بالحرفين الأوائل من اسمه آي كي) بما توصل له الوزراء مع السعودية من مصدره بين حاشية القصر وهو الدكتور بهاء الدين محمد إدريس. فجاء للسودان بمشروع لبناء مصفاة أكبر خمس مرات من التي جرى الاتفاق عليها. وسوغ لنميري سر مصفاته الباتع بأنها ستكفي حاجة السودان وشرق أفريقيا بالنظر إلى أن نميري زعيم أفريقي أيضاً. ونقل للرئيس أن السعودية تعلم بمشروعه وتباركه وتدعمه بنفط بثمن متهاود. وحاول منصور خالد إثناء الرئيس عن الارتباط بمشروع الخاشوقجي الذي لا حاجة للبلاد به وهي ليست سوقاً لبيع البترول. واضاف أن السعودية، التي اتفقت معهم بصورة رسمية، لن تدعم الخاشوقجي. ولكن كان نميري في واد آخر. وكان منصور يعرف موقف السعوديين السلبي من عرض الخاشوقجي الذي أطلعه عليه محمد زكي اليماني وزير النفط السعودي. فقول الخاشوقجي بالحصول على البترول بسعر تفضيلي مخالف لقوانين السعودية. وألحف منصور في طلب اليماني ليأتي للسودان ليقف الرئيس على فساد فكرة الخاشوقجي. وجاء اليماني في صيف 1974. وفوجئ باجتماع خاص مع الرئيس ظهر فيه الخاشوقجي وسالم عيسى (مستهبل على السودان من بطانة نميري الأكولة لمالنا). وعرض الخاشوقجي مشروعه في اللقاء وكان دور النميري الترويج له في قول منصور. وتحدث اليماني عن مخالفة المشروع للقوانين السعودية من جهة مده بنفط بسعر تشجيعي. وتطفل سالم الأرعن وقال لليماني إن ذلك أمر سيتقرر بواسطة جهات عليا في السعودية. وجلل الحرج المكان أن يساء إلى ضيف الرئيس بحضوره ومن متطفل على اللقاء. وبعد لقاء اليماني وقع بهاء الدين م إدريس اتفاقية مع شركة الخاشوقجي، ترياد للنفط، لبناء مصفاة بشراكة 50 في المائة لكل من السودان وترياد. وخرج الخاشوقجي معززاً بالاتفاقية وسند الرئيس يتسوق للحصول على مصفاة. ولم يستمع نميري لنصح منصور والوزراء من أن السعودية لن تدعم الخاشوقجي الذي لا يريد أكثر من بيع مصفاة للسودان وقبض العمولة. وتأبى نميري. بل صدرت منه عبارة حامضة بحق المملكة زعم فيها أن الخاشوقجي محسود من السعوديين لنجاحه. واجتمع منصور لاحقاً بالملك فيصل بترتيب من اليماني الذي عاد من السودان غاضباً لحديث سليم عن الجهات العليا التي سيعلو صوتها فوق صوته. وأختلى منصور بالملك فيصل الذي تميز غيظاً مما سمع. وزاد الطين بلة أن نميري زار السعودية وسأل الملك فيصل أن يقضي له غرضاً لم يصرح به. وفي سماحة عاهل مع ضيف كبير وافق الملك الذي لم يكن يدري أن الغرض هو أن يصفح عن الخاشوقجي المطرود من المملكة. وكان نميري قد جاء بالخاشوقجي نفسه معه على طائرته. وهكذا جاء الخاشوقجي بشباك نميري لبلد طردته السلطات منه بالباب. وتحرج الملك وقضى لنميري أمره. ووضع نميري حجر الأساس للمصفاة في مايو 1974. ولا يزال إلى يومنا حجر أساس المصفاة قائماً والمصفاة لا توجد. وبالطبع راح مشروع المصفاة الصغيرة أدراج الرياح. 1973 أنا يا سواجن-سواكن بعد عودة قناة السويس لمجراها اتضح أن ميناء بورتسودان لم يعد يسع حركة البواخر مما دفع الحكومة للأخذ بمشروع لتوسيع بورتسودان ولإعادة تأهيل سواكن. استصحب منصور خالد المانيا الغربية لتمويل المشروع في شتاء 1973. ووضعت المانيا 27 مليون مارك لتمويل الموانئ السودانية. ودخلت السعودية شريكاً في المشروع. وكان نميري مطلعاً على كل هذه الخطوات. وعينت المانيا شركة لبدء دراسة تنفيذ المشروع. وانتظرت تسمع من السودان والسعودية ولا خبر. وظهر الخاشوقجي ليعرض أن وزارة الدفاع السعودية ستمول المشروع متى كان له الأشرف على المشروع. ووقع نظره على شركة المانية كانت تعمل في الطرق بالسودان لتقوم بإنشاء الموانئ. واختارها لأنه اعتقد أن الألمان سيغضون الطرف عن وجوب تقديم عطاءات لتنفيذ المشروع طالما كانت الشركة المانية. ولم يكن الموضوع ميسراً. فألمانيا أصرت على وجوب فتح باب العطاءات. واستنكرت تقديرات الشركة التي جاء بها الخاشوقجي لأنها زادت عن المقرر ب 30 إلى 40 في المائة. واستدعى الوزير عبادي مندوب شركة خاشوقجي الألمانية وزجره. ولكن المندوب قال بصراحة إنه لا دخل له في التقدير. فالعقد وقعه نميري شخصياً والذي جاءه بالتقدير هي شركة ترياد الخاشوقجي. وحمل عبادي الأمر لنميري الذي تذرع بأن ذلك ما طلبه السعوديون الذين نظروا للمشروع من زاوية الدفاع عن البحر الأحمر، وشجعهم ذلك على تمويله. وكأن نميري قال لوزيره، وفي قول منصور، "إتلهي إنت". قال منصور إن الوثيقة التي وقعها نميري إهانة وطنية. فقد وقع عقداً مع شركة أجنبية ولا يقع ذلك في إطار اختصاصه. ولم تتراجع المانيا وأصرت على خضوع التنفيذ للعطاء. وقالت إذا لم يخضع الأمر للعطاء فهي ستصمم على تقسيم المشروع إلى جزأين. ولم تكن الحكومة التي أغراها وحدة المشروع سترضى بتقسيم أوصاله. قال منصور إنه عاد للمشروع عام 1976 يعد عودته في صلاحية محددة إلى وزارة الخارجية. فزار السعودية مع رئيس الوزراء، الرشيد الطاهر بكر، وفتح موضوع الموانئ مع الأمير فيصل. وعلم منصور منه أن وزارة الدفاع السعودية لا علم لها بالمشروع البتة. وقال إن السعودية ستمول المشروع خلال صندوق التنمية السعودي متى وضع السودان المشروع كأسبقية تنموية في ما يعرض عليهم من قوائم لخططه للتنمية والتمويل. وكان ذلك ما ظل وزراء نميري يقولونه له. وكان بهاء إدريس في المهمة مع منصور. وقال إدريس إن مصادره أكدت له أن وزارة الدفاع ستمول المشروع لابد. لم يقو إدريس على الحديث عن سلطة عليا سعودية تعلو على الوزراء لأن الرشيد الطاهر سمع القصة من الأمير فهد مما لا يعلى عليه. وعاد منصور والوفد بخفي حنين برغم تلك التلفونات الكثيرة الغامضة التي كان يجريها بهاء مع مصدره. وزار نميري السعودية بعد عام من ذلك ووضع وزير المالية مشروع الموانئ ضمن مشاريع أخرى للتمويل السعودي. وكرر السعوديون موقفهم من أن تمويل المشروع سيعتمد على وضعه ضمن اسبقيات الخطة السودانية. واستسلم نميري. ولم يبدأ التنفيذ إلا في 1978 بعد عامين من البدء الجدي فيه. وبدلاً من أن يعاقب نميري من تسببوا في تأخير المشروع من فرط ذكائهم الجشع وجه نصر الدين مصطفى، وزير المالية، أن يناقش مع الألمان في زيارة لهم مشروعاً للعون يشمل سواكن تتولاه الشركة التي وقع اختيار الخاشوقجي عليها. ولقي أمر نميري الرفض من الالمان والسعوديين في اجتماع مشترك لهما في بون. مات الرجل الذي جعلنا ندفع نقوداً عزيزة. ظلمنا. ومنو الما ظلمنا؟ كما كانت تقول الحاجة الوالدة جمال في مثل هذا الموضع. رحمها الله ورحمه. عبد الله علي إبراهيم