الكتابة إجمالا هي توافق وتواطؤ بين شغف الإنسان بالواقع والقدرة على التخيل، وبما أن الكاتب ينقلك بين واقعية الحدث أو القضية التي تتمحور حولها الكتابة وبين مساحة التخييل، فإنّه يوفق بين اثنين لا بدّ من توافرهما معا، وعليه فالنص الأدبي لا يكتسب صفته الأدبية إلا بالانتقال من الواقع إلى التخيل، وبقدر نجاح الكاتب في هذا الأمر بقدر ما يكون ذلك نجاحا لأيّ عمل أدبي. العرب مبروكة علي فائقة قنفالي.. الكاتب يتحول إلى طباخ متميز يعرف جيدا مقادير وجبته "الطيران بجناح آخر"، كتاب جديد يضاف إلى المكتبة التونسية للكاتبة فائقة قنفالي، وقد صدر عن دار "ميزوبوتاميا" العراقية. وهو عبارة عن خمسة عشر نصا سرديا، وعلى خلاف القصيدة تبدو مهمة السرد عسيرة نوعا ما هنا فالكاتبة مطالبة بقول ما عجز العمل الشعري عن قوله، مع القدرة على شدّ القارئ لآخر فيض من حبره، حين نعرف أن هذا السرد مشحون شاعرية في أماكن كثيرة من جسد النص السردي، وهو أمر يتحقق عن طريق اللغة وتقنينها ومعرفة كيميائها، أي أن الكاتب يتحول إلى طباخ متميز يعرف جيدا مقادير وجبته دون زيادة أو نقصان. ما ميز "الطيران بجناح آخر"، حسب رأيي، هي لغته إذ لم تحاول الكاتبة قنفالي استعراض عضلاتها اللغوية، وإنما سلكت طريق البساطة بحيث مازجت بينها وبين إيقاع الأحداث المغيمة قليلا، وهو ما أحدث نوعا من الموسيقى داخل النسق السردي ورفع من مستواه. الحلم الساذج القارئ في هذا الكتاب، كثيرا ما يشعر أن هناك موسيقى تتبعه وهو يقرأ هذا الفعل الجمالي للغة، ما يجعله يوغل أكثر في الكتاب ويتلمس جمالياته، ومنذ البداية تضع الكاتبة القارئ على متن طائرتها المسافرة في اللغة، وبين عاشقين وسريرين كل منهما في مكان -فارق مكاني يلغيه فارق شعوري أو حسي- وسماء وغيمة ونافذة، وثمة مساحة هائلة من الموسيقى والكلام والصمت والحب؛ ثمة هي "فائقة في المحطة وهي ترسم نهاية تليق بأبطالها"، ومجازها الشاسع. ما يلاحظ أيضا في "الطيران بجناح آخر" أنه وعلى الرغم من أن لكل نص فكرته ولغته وأسلوبه ومجازه إلا أن القارئ لا يشعر بتلك الرجة التي من الممكن أن تحيله إلى خارج الكتاب، فبين النص والنص ثمة خيط رقيق لامرئي، ربما هو شعور خفيّ وزعته الكاتبة على امتداد الكتاب: أنها هي وأنك أنت هنا، الكل يشغله الحب والكل يركب الحافلة مع الغرباء، وبينه وبينهم يدور كلام يقال أحيانا ولا يقال أحيانا أخرى، تكهنات كثيرة ومضحكة وغريبة نرسمها جميعا عن الغريب الذي يجلس بجانبنا في الحافلة أو القطار أو في أي وسيلة ركبناها، مفارقة تقتنصها صاحبة الطيران بجناح آخر لصالح حكايتها التي هي حكايتنا. الحكاية ليست اعتباطية وإنما هي ذلك الحلم الساذج في قلب كل فتاة والحبيب الذي ستلتقيه في حافلة ما. الكاتبة وعبر نص "أصابع قدمها" تشير إلى ما تفرضه المجتمعات العربية في عمر معين على الفتاة من ضرورة الزواج، وتصنع لكل إصبع من أصابع القدم حكاية، ولكن له دلالته التي تحيل إلى شخصية الآخر، وهي في النهاية لعبة واقعية ومن ثم لعبة لغة. نصوص الكتاب تتوسّل ضمير المتكلم، حيث تلبّست الكاتبة بشخصياتها، وحاولت الانغماس فيها ونقل انفعالاتها. إشارة أخرى لفتت انتباهي؛ ثمة فقد هائل يسمى "الأب" وزعته الكاتبة على شخوصها "الأنثى خصوصا وغالبا"، فكانت رقيقة بقلب مثقوب وكأن هذا الفقد لا يستقيم معه أيّ شيء آخر. ولعل هذا الأمر يبدو واضحا أكثر في نص "الموت سيد الألوان" ونص "رحيل الربيع"، فالأب أول الرجال في قلب كل فتاة، وغيابه ثقب نعلمه نحن الأيتام ونتحسس ثقله مع الأيام، ورغم قسوته لا يمكن بحال أن ننساه في ناحية ما زاعمين أنّه لم يحدث، يكمن هذا الكائن بين الموت والحياة، بين لحظة مرئية ولامرئية وبين تراكم من الانفعالات. نصوص بين متاح اللغة وتقويض الواقع الواقع والتخيل "الطيران بجناح آخر"، له نصيب من السياسة، ورغم ثقل هذه الأخيرة فإني أجزم أن فائقة في نص "النجوم تصبح أيضا سوداء" استطاعت أن تلامسها بحديثها عن الابن الذي يعيش في غياب والده الماركسي، وقد أخذته أجهزة النظام وهو صغير ولم يعد بعد. تنقلك بسرعة بين طيات هذا الغياب مع حرص الأم أن لا يكون مثل أبيه، وصية يحافظ عليها الابن متحليا بالموسيقى، ومتخذا من الكمنجة رفيقة، الكمنجة التي أصبحت عذبة بوجود مريم، مريم طالبة الحقوق التي ستقوده في ما بعد لأجهزة النظام وفظاعتها. بإيقاع سردي وبعد تخيلي تسرد قنفالي في نص "ثلاث أمنيات" ليصير للبتلات التي عرفناها "بيحبني لا ما يحبني" شكل آخر، فالكاتبة أنطقت الطبيعة من النهر إلى الزهرة في يد عاشقة، تلك الزهرة التي لم نهتمّ يوما بما كان يجول في خاطرها ونحن نمارس لعبة "يحبني لا يحبني"، للحقيقة أقول هذا النص كان الأجمل وفيه استطاعت الكاتبة أن تنغمس في عمق شخصياتها من العاشقة فالزهرة إلى النهر. يترافق في الرواية التخيلي والواقعي بل الواقعي جدا، ويبرز ذلك في رصد ظاهرة "التصفيح" في تونس (بلد الكاتبة)، حضور تلك التجربة القاسية التي علقت في ذهن وعقل وقلب الكثيرات من الفتيات بحجة الحفاظ على عذريتهن، بقسوتها وفظاعتها وما تتركه من أثر لا يمّحي، لقد صوّرتها الكاتبة ونجحت. كما لامست الكاتبة تلك المعاناة المستمرة: الهجرة غير الشرعية، وما يحسب للكاتبة أنها استطاعت التحدث عمّا تتركه هذه الظاهرة من لوعة في قلب الأمهات في جانب، وبينت ما تتركه من انحرافات بعضهم ليصير هائما بلا مرسى في جانب آخر. لم يغب العالم الافتراضي لأهميته من قبضة الكاتبة فصار الفضاء الأزرق مقهى يلتقى فيه الغريب والغريبة ويمارسان لعبة اللغة، اللغة التي تمنح الواقع الرتيب حركية ما. نصوص "الطيران بجناح آخر" استطاعت في أغلبها أن تحقق غايتها وتجعل القارئ يستمتع بفعل القراءة، بعيدا عن فكرة السرد لمجرد السرد، وإنما للمزاوجة الطيبة بين الواقعي والتخيلي وبلا إفراط وإيغال في التعمية اللغوية.