مساهمة لإثراء الصراع الفكري داخل الحزب الشيوعي السوداني في إطار التحضير للمؤتمر السادس و مواصلة لما جاء في الحلقة السابقة فيما يتعلق بإدارة قضية الصراع الفكري وفقا للفهم الديالكتيكي (المادي الجدلي) لجوهر الصراع الفكرى و مضمونه فقد اعتمد الحزب أيضا في سبيل تحسين التكوين الشيوعي للعضو و الحزب معا أسبقيات أخري جوهرية تتمثل فيما يلي: 1- إهتم الحزب بالتثقيف و التثقيف الذاتي للأعضاء كقضية جوهرية و فكرية أيضا. فعلي مستوي العمل الداخلي للحزب يعتمد مكتب التثقيف المركزي عدة برامج و محاضرات للكادر (دستور الحزب، 2009، مادة. 22) ليتم تقديمها في المناطق و الفروع و الوحدات بجانب البرامج و الدراسات التي تبادر بها كل هيئة حزبية علي حدا. أما علي مستوي التثقيف الذاتي للأعضاء فقد جعله دستور الحزب أحد أهم واجبات العضوية. فقد جاء في المادة (11) من دستور الحزب النقاط (9، 10) أن من واجبات العضو هو أن: يثابر على تثقيف ذاته ورفع قدراته المهنية والعملية. يجتهد في استيعاب الوسائل والأدوات العلمية الحديثة و يواكب المستجدات والمتغيرات في ذلك. و بالتالي فإن قضية التثقيف الذاتي للعضو قضية جوهرية و مركزية عدم الالتزام بها يعتبر إخلالا بواجبات العضوية. و الحزب عندما يضع التثقيف الذاتي كأحد واجبات العضو إنما يضعه بكونه أحد القضايا الفكرية التي تسهم في تحسين التكوين الشيوعي للحزب و العضو معا. فقد إهتم الحزب بالصراع الفكري كقضية فلسفية و ديالكتيكية تستند علي مفهوم الحركة بكونها وحدة النقيضين أو (الإستمرارية). فالصراع الفكري هو الذي يضمن استمرارية الحزب و يسهم في تطويره و تطوير قدرته علي فهم الواقع المحيط به و متغيراته. و لذلك وضع الحزب في دستوره معايير تنظم الصراع الفكري و تحدد قنواته الداخلية لضمان فعاليته و استقلاليته. و بالتالي فإن الصراع الفكري بهذا المعني هو أكثر ارتباطا بقضية اهتمام الحزب و دستوره بالتثقيف الذاتي كأحد أهم واجبات العضو. فبجانب كون التثيقيف الذاتي يطور مقدرات الحزب و العضو في فهم الواقع و تحليل متغيراته و بالتالي يضمن تطبيقا خلالقا للماركسية في واقع بلادنا، فهو أيضا يساعد علي تحسين إدارة الصراع الفكري داخل الحزب و يجعل العضو قادرا علي تبني مواقف و وجهات نظر مستقلة دون الحاجة للثرثرة و الإتفاق علي قضايا الصراع الفكري خارج القنوات و التكتلات و غيرها من الأمراض التي تضر و تهدد وحدة الحزب. فوجهة النظر المستقلة القائمة علي جهد عملي و نظري و فكري عميق و المستندة علي ثقافة عميقة متنوعة و اطلاع يومي يقظ بمتغيرات الواقع المحيط هي التي تضمن فاعلية الصراع الفكري و موضوعيته و تسهم بالتالي في تطوير الحزب و في تحسين تكوينه الشيوعي. فكسل العضو عن التثقيف الذاتي و سيادة الثقافة السماعية و تبني آراء الآخرين بدافع الإعجاب أو الصداقة أو الاستلطاف أو العلاقات الأسرية من موقع الفقر الثقافي و الكسل و الضعف الفكري كأحد أمراض الرأسمالية الوطنية و البرجوازية الصغيرة التي تنعكس داخل الحزب هو أحد أهم الأسباب الرئيسية للضيق بالرأي الآخر و التعصب و سيادة الجمود الفكري. و تاريخ الحزب يؤكد أن الفقر الثقافي و الضعف الفكري و عدم امتلاك القدرات الذاتية لتفسير الواقع و فهم متغيرات الثورة الوطنية الديمقراطية و الضيق برأي الأغلبية و عدم إحترامه كانت هي أحد أهم الأسباب الرئيسية في كل الإنقسامات التي شهدها الحزب دون استثناء، ((وتقول الوثيقة أيضا (يسلك بعض الرفاق ازاء الجماهير مسلكا نابعا من الأصل البورجوازي الصغير فما ان يلموا ببعض أطراف الماركسية حتي ينطووا علي انفسهم وكأنهم يحملون سرا لاتقوي عليه الجماهير، وحتي يبدأوا في مصادمة كل آراء الناس وتنقية طرق حياتهم، انهم لايتكلمون الا في السياسة الخالصة كانهم وعاظ وماعدا ذلك فيعتبرونه من لغو الحديث، وتشير الوثيقة الي امثلة محددة لهذا السلوك مثل حالة بعض المزارعين في الجزيرة وكيف اصبحوا يتعالون علي أهل القرية ويتحدثون مثل الأفندية ، ومثل عناصر البورجوازية الصغيرة المنشقة عن الحزب في عام 1952م وميلها للاستشهاد بالنصوص الماركسية واعتبار كثرة النصوص دليلا علي الثورية، ونماذج التباهي بالمعرفة كأنما للمعرفة حدود ، واصدار الأحكام الشخصية والذاتية دون تروي وموضوعية، الميل للقراءة السهلة والتفكير السطحي وعدم الصبر علي مشاق التفكير العميق))، (عبد الخالق محجوب، إصلاح الخطأ، مرجع سبق ذكره). 2- اعتمد الحزب خلال مسيرته الطويلة مبدأ النضال الدؤوب وسط الجماهير كحصيلة لمجمل الصراع الفكري حول قضايا الثورة السودانية قبل الاستقلال و بعده. فقد خاض الحزب قبل الاستقلال صراعا فكريا ضد الإتجاهات البرجوازية الصغيرة و الرأسمالية الوطنية (المتمثلة في مجموعة عوض عبد الرازق) التي حاولت طمس الطبيعة الطبقية للحزب و محو هويته المستقلة كحزب طبقي يناضل من أجل الإشتراكية علي المدي البعيد و تحويله لمجرد حزب صفوي معزول عن الحركة الجماهيرية ليعمل كتيار يساري من داخل أحزاب الرأسمالية الوطنية (الأحزاب الإتحادبة) و عزله بالتالي عن الطبقة العاملة و المزارعين تحت دعاوي أن الطبقة العاملة طبقة ضعيفة لم تزل في طور التكوين و لن يكتمل تكوينها إلا بعد إنجاز برنامج مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و أن حركة المزارعين لم تتشكل بعد كطبقة إجتماعية ذات قضايا مطلبية تجعلها قادرة علي بناء تحالف استراتيجي مع الطبقة العاملة. أما بعد الإستقلال فقد إعتمد الحزب أيضا خط النضال الصبور وسط الجماهير من أجل تعزيز الإستقلال و الديمقراطية و السلم كضمانة أساسية لتطور بلادنا نحو آفاق الثورة الوطنية الديمقراطية و رفض كل الإتجاهات البرجوازية الصغيرة التي تتعجل النتائج و الاستنتاجات السطحية و لا تثق في قدرات الجماهير و دعت بعضها للنضال المسلح كبديل للنضال الجماهيري السلمي الدؤوب كما حدث في إنقسام أغسطس 1964م أو ما عرف تاريخيا بإنقسام "القيادة الثورة" بقيادة أحمد شامي و يوسف عبد المجيد و علي عمر الذي تبني خطا فكريا ينادي بعدم إمكانية إنتصار قضية الشعب بدون الثورة المسلحة دون أن يكون لهم القدرة علي قراءة واقع الصراع الطبقي و الإجتماعي و تحولاته الثورية آنذاك و التي هزمت أفكارهم اليسارية البرجوازية الصغيرة في محك النشاط العملي بين الجماهير. فقد كانت أفكارهم تلك تمثل في جوهرها ضيقا بالنضال اليومي الصبور و تعجلا للنتائج و وقوع تحت تأثير سيادة روح اليأس و الإحباط نتيجة لعدم صبرهم علي الهجمة المنظمة التي شنتها الديكتاتورية العسكرية منذ عشية إنقلابها في 1989م لتصفية الحزب و ملاحقة الحركة الجماهيرية و إعاقة تطورها و الزج بقيادت الحزب و قيادات الحركة الجماهيرية في السجون و المعتقلات، و أيضا نتيجة لعدم تحملهم لظروف العمل السري القاسية التي كان الحزب يعمل من خلالها في تلك الظروف القاسية. فبينما كانت قيادة الإنقسام وقتها تنشط في الترويج لفكرهم الإنهزامي اليساري المتطرف كانت الحركة الجماهيرية قد استجمعت قواها و وحدت صفوفها و حققت الإضراب السياسي العام الذي أطاح بدكتاتورية عبود في اكتوبر 1964م و أثبتت بالتالي صحة قراءة الحزب الماركسية لطبيعة إنقلاب نوفمبر 1989م و واقع الصراع الطبقي و الإجتماعي آنذاك و سلامة خطه الداعي للنضال السلمي الصبور وسط الجماهير و فعالية شعار الإضراب السياسي العام كوسيلة لهزيمة الديكتاتورية العسكرية كما جاء في مجلة الشيوعي العدد 109 (عبد الخالق محجوب، ثورة شعب، 1964). إنقسام سبتمبر 1970م و الذي مهد لتصفية أبرز قيادات الحزب عقب ردة يوليو 1971م كان أيضا تعبيرا عن أبرز تجليات تعجل النتائج و الاستنتاجات الخاطئة و العجز عن القراءة الماركسية لواقع الثورة السودانية وقتها و طبيعة الصراعات الطبقية و الإجتماعية و الضيق بالنضال الدؤوب وسط حركة الجماهير كوسيلة أساسية لإنجاز برنامج مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية (و رفض الإنقلابات العسكرية) الذي تم التأكيد عليه في وثائق "الماركسية و قضايا الثورة السودانية 1967م"، "قضايا ما بعض المؤتمر 1968م"، "حول البرنامج 1971م". و كذلك كانت تعبيرا لأبرز تجليات تطلعات البرجوازية الصغيرة الضيقة المتطلعة للسلطة و المكاسب الذاتية التي وجدت في مايو نهاية لمطاف الثورة الوطنية الديمقراطية و بديلا لتطلعات قواها الإجتماعية تحت شعار تحالف قوي الشعب العاملة و تنظيمها الفوقي الممثل في الإتحاد الإشتراكي و مطية و طريق سهل لتحقيق تطلعاتها الذاتية. فقد مثل الإتحاد الإشتراكي أحد أبرز بؤر الفساد و التسلط و تكريس حكم الفرد المطلق و إنتهي في نهاية الأمر إلي مزابل التاريخ. لقد كان انقسام سبتمبر 1970م بحق تعبيرا واضحا عن تجليات إنعكاس الصراع الطبقي و الإجتماعي داخل الحزب بين تيار متعجل داخل الحزب يسعي لتحقيق مصالحه الطبقية و تطلعاته الخاصة تحت مظلة الحزب الشيوعي و بين تيار ماركسي متمسك بالنضال الدؤوب وسط الجماهير رافضا الوصايا عليها من خلال الحزب الواحد و تكريس سلطة الفرد المطلق و تحت شعارات ديمقراطية زائفة. و برغم الثمن الذي دفعه الحزب و الخسائر التي تعرض لها نتيجة لذلك الصراع إلا أنه خرج موحدا و استطاع تجميع قواه و تجديد تماسكه بخط النضال الدؤوب الصبور وسط الجماهير بل توصل إلي أن واقع الثورة السودانية لا يستوعبه حزبا واحدا و لا يمكن لآفاق الثورة الوطنية الديمقراطية أن تنمو و تتفتح إلا من خلال الديمقراطية و من خلال توحيد كافة قوي المعارضة في جبهة عريضة لإنقاذ الوطن و هو ما عبرت عنه بوضوح لا يحتمل أدني درجة من درجات الغموض وثيقة "الديمقراطية مفتاح الحل جبهة عريضة للديمقراطية و إنقاذ الوطن 1977م" و ما أكدت عليه أيضا بشكل أكثر وضوحا "دورة اللجنة المركزية في ديسمبر 1978م". إنقسام مايو 1994م أيضا كان يعبِّر عن تيار ضاق بعملية النضال الدؤوب طويل الأجل و استسلم لحملات الملاحقة و التصفية و التعذيب و التشريد و المحاصرة و العزلة السياسية التي فرضتها سلطة يونيو 1989م الديكتاتورية المتأسلمة علي الحزب و علي الحركة الجماهيرية و قوي الثورة الوطنية الديمقراطية عموما تحت شعارات المشروع الحضاري الزائفة الهادفة إلي تصوير الحزب الشيوعي كحزب معادي للدين و تقاليد المجتمع. و قد ساعد علي نمو هذا التيار إنهيار المنظومة الإشتراكية في أوروبا و المتغيرات التي صاحبت ذلك و فرضت توازن جديد للقوي الدولية لصالح الإمبريالية العالمية و تراجع حركة الطبقة العاملة و القوي االاشتراكية عموما و سيادة الرأسمالية المعولمة المرتبطة بالنموذج اللبرالي الجديد تحت قيادة القطب الواحد، و علي المستوي الآيديولوجي سيادة أطروحة نهاية التاريخ لفوكياما و نظرية صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون و اللذان سرعان ما خَبَي بريقمها. لقد جعلت كل هذه الظروف هذا التيار يعتقد خاطئا بأن لا ثمة طريق لمواجهة هذه العزلة السياسية و الإنحسار في تأثير الحزب السياسي و الجماهيري غير التنازل عن خطه الماركسي و التحول لحزب برنامج أو حزب لبرالي يتوجه للجماهير بشعارات ديمقراطية لبرالية وسطية كشرط لقبوله جماهيريا و اعتقد سازجا بأنه و بمجرد إعلان هذا الحزب اللبرالي ستنهال عليه طلبات العضوية و تتضافر صوبه حشود الجماهير المؤيدة و الدليل علي ذلك أن حركة القوي الديمقراطية (حق) التي أعلن عنها الراحل الخاتم عدلان في مؤتمر صحفي بلندن أمام الملأ (مع كل الإحترام و التقدير لتنظيم حق و مواقفه الوطنية ضد سلطة يونيو الديكتاتورية و اصطفافه مع قوي المعارضة الداعية لإسقاط النظام حاليا) ظلت حتي تاريخ اليوم حركة محدودة وسط المثقفين و الديمقراطيين و بعض الذين تركوا الحزب الشيوعي و ظل الأخير راسخا متواجدا وسط الجماهير له تأثيره القوي الملحوظ علي حركة الجماهير و تتسع قاعدته يوما بعد يوم في خضم الصراع الإجتماعي و النضال اليومي و مواقفه الثابتة من قضايا الجماهير. هذا الصراع الفكري داخل الحزب كما أسلفنا بين التيارات التي تسعي بوعي أو بدون وعي إلي مسح استقلالية الحزب و عزله و حرفه عن خطه الماركسي، و بين التيار المتمسك بالماركسية كمرشد للنضال الثوري و أساس فلسفي و جدلي لقراءة واقع الثورة السودانية المتسم بالصبر و التمسك بخط النضال الدؤوب طويل الأجل وسط الجماهير سيظل مستمرا. و كلما يتم حسم الصراع وفق آليات الحزب المجربة كلما ظهرت مجددا في مراحل لاحقة من تطور الحزب تلك التيارات و ذلك الصراع. و هذا ليس عيبا أو ضعفا أو قصورا في عمل الحزب و لكنه متلازمة ضرورية كما أسلفنا و سمة من سمات الحزب الثوري مستحيلة التعضي عنه تفرضها سيرورة الصراع الإجتماعي و الطبقي و تباين أنماط علاقاته الإنتاجية و كياناته الثقافية و العرقية داخل المجتمع السوداني. فالحزب الشيوعي ليس حزبا هلاميا يسبح في فضاء معزول عن كل ذلك و إنما هو جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع السوداني يتأثر به و يؤثر عليه. [email protected]