مساهمة لإثراء الصراع الفكري داخل الحزب الشيوعي السوداني في إطار التحضير للمؤتمر السادس أهمية الفهم الفلسفي للصراع الفكري هذا الوقوف المسهب علي الجوانب النظرية و الفلسفية لقضية الصراع الفكري له أهميته و ضرورته النابعة من صعوبة و تعقيد عملية التطبيق الخلاق للماركسة علي واقع بلادنا و علي الحزب الشيوعي معا. فإذا كان من السهولة تطبيقها علي الظواهر الطبيعية و العلوم كما في حالة كوب الماء و تحوله من حالة السيولة إلي الغازية و سهولة قياس درجة ارتفاع الحرارة لتصل إلي درجة الغليان و من ثم التحول النوعي إلي بخار. فمن الصعوبة و التعقيد (علي الأقل حتي اليوم) قياس مستوي الصراع الطبقي علي مستوي المجتمع أو التحولات الكمية إلي نوعية قياسا كميا و رياضيا علي شاكلة غليان و تبخر كوب الماء المذكور أو انتقال السهم الزينوني من نقطة إلي أخري. خاصة في بلادنا التي تشهد تحولات متباينة عميقة معقدة في التركيبة الطبقية للمجتمع باعتبار أن بلادنا أصلا بلاد متباينة الأنماط الإجتماعية و الطبقية. و لذلك فإن الشعرة بين القدرة علي قراءة الواقع الإجتماعي و الطبقي المحيط قراءة دقيقة ثافبة و تطبيق الماركسية عليه تطبيقا خلاقا، و بين القراءة السطحية المتعجلة لواقع بلادنا و عدم القدرة علي قراءة تعقيدات الصراع الطبقي بشكل دقيق و الانحراف بالتالي عن تطبيق الماركسية عليه تطبيقا صحيحا هي شعرة قد لا تري بالعين المجردة و تحتاج للعمق الفكري و اليقظة و إمعان النظر و التثقيف الذاتي و النقد و النقد الذاتي. و الإغفال عنها يؤدي إلي إنحراف الحزب عن خطه الهادف إلي تطبيق الماركسية علي واقع بلادنا تطبيقا خلاقا وفقا للسمات الخاصة لمجتمعنا و من خلال الإرتباط الفعلي اليومي بكافة مستويات تنظيم حركة الجماهير. و علي الرغم من إمكانية تحليل و تفسير تلك التحولات الكمية في سيرورة الصراع الطبقي في المجتمع بعد و أثناء حدوثها، و الإيمان الراسخ من حيث المبدأ بتحولها إلي إنفجار ثوري أو (تحول نوعي) في المستقبل إلا أنها تغيرات تدريجية غير ملحوظة و بالضرورة تكون درجة غليانها و تحولها النوعي أيضا غير ملحوظة و يصعب التنبؤ بها. فبرغم التراكمات الكمية لنضالات شعبنا المستمرة التي امتدت لستة عشر عاما ضد دكتاتورية مايو منذ بداياتها في 25 مايو 1969م إلي سقوطها في 6 أبريل 1985م علي سبيل المثال، و من أبرزها 16 نوفمبر 1970م، أغسطس 1973م، 19 يوليو 1971م، 5 سبتمبر 1975م، 2 يوليو 1976م، يناير 1980م، يناير 1982و غيرها، إلا أنه يصعب تحديد و قياس مرحلة التحول الكمي الذي وصلت إليه في كل حراك إجتماعي بحيث يمكن معه تحديد لحظة الغليان التي يتحول فيها هذا التراكم الكمي من الصراع الإجتماعي إلي الإنفجار أي إلي لحظة التحول النوعي. و الدليل علي ذلك عدم قدرة أحد التنبؤ بموعد إندلاع انتفاضة مارس/أبريل 1985م في ذلك التاريخ بالتحديد بل حتي التنبؤ بأن الاحتجاجات و المظاهرات التي بدأت صغيرة متفرقة في 26 مارس 1985م يمكن أن تتسع و تتحول لإنتفاضة شاملة تؤدي إلي إسقاط النظام المايوي. ثورة 21 اكتوبر 1964م أيضا كانت تحولا نوعيا أطاح بحكم الجنرالات و حلفائهم من أرستقراطية شبه الإقطاع القبلي و اليمين الرجعي و تتويجا لتراكمات كمية متواصلة لنضالات شعبنا منذ عشية انقلاب 16 نوفمبر 1958م تناولها الشهيد عبد الخالق محجوب في كتاب ثورة شعب بتوثيق محكم و استفاضة و عناية و تركيز و تحليل مادي جدلي عميق. و لكنها أيضا (أي تلك التراكمات الكمية) لم يكن بمقدور أحد وقتها (حتي الشهبد عبد الخالق نفسه) رسم خريطة كنتورية أو جدول زمني لها يحدد بدقة موعد الإنفجار الثوري. فنضوج الظروف الموضوعية للثورة إذا لا يؤدي لوحده إلي إنفجار الثورة و إنما يحتاج بالضرورة إكتمال الظروف الذاتية المتمثلة في نهوض حركة الجماهير و اصطفاف قواها الإجتماعية و منظماتها الديمقراطية و النقابية و وصولها مرحلة الفعل الثوري المباشر و الإرادة الشعبية الموحدة. إلا أن الحقيقة الجدلية في قانون التحول الكمي إلي نوعي هي أن التحول النوعي دائما يكون للأعلي أو للمستوي الأرقي حتي لو حدثت في مسار هذا التحول بعض التقطعات وفقا لقانون نفي النفي أي نفي السمات السلبية واستبقاء السمات الجيدة وفي نفس الوقت الإرتقاء لمستوى أعلى. إلا أن عملية نفي السمات السلبية عملية معقدة غير سهلة فماركس و أنجلز عندما صاغا النظرية الماركسية كما يقول القائد الراحل محمد إبراهيم نقد لم يدعيا أنهما صاغا نظرية كونية الأبعاد سرمدية المدى. و كأي علم طبيعي أو اجتماعي، لا تسير عملية التطور في خط مستقيم صاعد. فقد عرف تاريخ العلوم، وحاضرها أيضاً، أزمات ركود وجمود وأحياناً رجعة إلى ما قبل العلم ومناهجه (نقد، كيف حاصر الجمود أطروحات ماركس و أنجلز عن الإشتراكية، 2002م). و بالتالي فإن عملية نفي السمات السلبية يأتي كنتاج عملية تطور طويلة و معقدة قابلة للصعود و الهبوط و تسودها بالتأكيد روح اليأس و الإحباط في بعض مراحل هبوطها، لكنها دائما تُبقِي الأحدث في نهاية الأمر لينفي النفي السابق ويستبقي سماته و خواصه الجيدة ويرفعه درجة أعلى من سابقتها، وهكذا. فمسار التطور في المفهوم الجدلي هو ارتقاء لأعلى، أي لمستوى أكثر تعقيداً من سابقه. فالحركة الجدلية ليست حركة لولبية و أن التاريخ لا يعيد نفسه كما يعتقد البعض و يوهمهم إعتقادهم الخاطئ بأننا نسير في ذات المسار في كل مرة، أي بأننا نرجع دائماً لنقطة الانطلاق أو (نقطة الصفر). فكما يقول هيراقليطس (إنك لا تسبح في النهر مرتين). أي أنك أولا: بالفعل تسبح في النهر عدة مرات و لكنك في كل مرة تعيد فيها السباحة في النهر فإنك في حقيقة الأمر لا تبدأ من الصفر بل تضيف لتجربتك (في السباحة) في المرات السابقة تجربة أرقي و أفضل و هكذا و ثانيا: أن النهر الذي تسبح عليه في المرة الثانية نهر مختلف باعتبار أن المياه التي تغمره في حالة جريان و تجدد مستمر. فالحزب الشيوعي يراكم تجاربه السابقة إلي الأفضل في ظل واقع بلادنا الطبقي و الإجتماعي غير الساكن و المتجدد و المتطور باستمرار برغم تلاطم موجات البحر و حركات المد و الجزر التي تنتابها باستمرار. و من هنا كان نتاج الصراع الطبقي خلال مسيرة الحزب الشيوعي و سيظل دائما إلي الأعلي و المستوي الأرقي و الأفضل برغم مراحل المد و الجذر و الصعود و الهبوط التي تصاحبه. و الدليل علي ذلك أن كل تجارب الصراع الفكري في الحزب الشيوعي بما في ذلك التي أدت إلي إنقسامات هددت وحدة الحزب و عرضته لخسائر جسيمة خرج منها الحزب قويا و موحدا و أكثر اقترابا من قضايا الجماهير. [email protected]