علي الرغم من أن حادثة سرقة مكتب الدكتور صابر محمد الحسن قد وجدت حظها من التغطية الإعلامية و النقد و السخرية و الاستهجان علي نطاق واسع في الصحافة المطبوعة و الإسفيرية و مواقع التواصل الإجتماعي إلا أنها حادثة تستدعي التوقف ملايين المرات للتمعن في معانيها و مدلولاتها التي تنافي كل مفاهيم أخلاقيات المهنة و الإلتزام. و تبدأ عملية إستخلاص تلك المدلولات و تنتهي بسؤآل السيد محافظ البنك المركزي السابق و رئيس مجلس إدارة بنك أمدرمان الوطني حاليا لماذا لا تحتفظ بكل هذه المسروقات من العملات الصعبة (و هي بالتأكيد غيضٌ من فيضٍ) في حساباتك الشخصية لدي البنوك المحلية أو علي الأقل في حسابك في البنك الذي أنت رئيسا لمجلس إدارته خاصة و أن البنوك (و أنت سيد العارفين) تعاني نقصا حادا في أرصدتها من العملات الصعبة؟؟؟ و علي الرغم من أن هذا السؤآل يعتبر من الأسئلة الصعبة التي تحتاج لإيجابات مستحيلة إلا أننا سنحاول هنا (إن جاز لنا ذلك) التكهن بالإجابة عليه و هي إجابة في تقديرنا لا تخرج من أربعة إحتمالات. الإحتمال الأول: هو أن السيد المحافظ السابق و رئيس مجلس إدارة بنك أمدرمان الوطني الحالي لا يثق في الجهاز المصرفي (و هو أكثر العارفين بواقع البنوك المزري و ما يدور في دهاليزها كونه كان حاكما لهذا الجهاز لسنين عددا) و يعلم جيدا بأن أي سنت أو فلس من العملات الصعبة يتم إيداعه في البنوك سيبتلعه الحوت و يتلاشي و يختفي و يتحول إلي مجرد رصيد دفتري غير قابل للصرف إلا بالعملة المحلية برغم وجود تعميم صريح من البنك المركزي بصرف العملات الصعبة لأصحابها عند الطلب من حساباتاهم أو تحويلاتهم بالعملة الصعبة. و إن صح هذا الإحتمال فهو بالتأكيد إحتمال يشكك في إلتزام الرجل بأخلاقيات المهنة من ناحيتين الأولي: في كونه محافظا سابقاً لأعلي سلطة نقدية في البلد و رئيساً حالياً لمجس إدارة أحد البنوك المحلية و من المفترض أن يحرص علي الإحتفاظ بعملاته الصعبة داخل البنوك فهي في أمس الحاجة للعملات الصعبة لتتمكن من تمويل الصادرات و الواردات و لكي يكون مثالا للإلتزام و النزاهة. و الثانية: في كونه أيضا محافظاً سابقاً للبنك المركزي طالما ظل يطالب الناس دائما و ينصحهم بتحويل و إيداع عملاتهم الصعبة في البنوك بل و يقوم بإصدار التعاميم و المنشورات المركزية التي تقنن و تنظم ذلك. فكيف يعقل أن تمنع الناس عن منكرٍ و تأتي بمثله كما قال تعالي في الآية (44) من سورة البقرة (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، و كما قال الإمام أحمد في مسنده صفحة (249) (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُجَاءُ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). أو كما قال أبو العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع أو كما جاء في فصيح اللغة و بلاغة التشبيه علي لسان الزاهد أبو عثمان الحيري عندما أطال السكوت يوما على مجلس التذكير، ثم أنشأ يقول : وغير تَقِيٌ يأمر الناس بالتُقَى طبيبٌ يُداوِي والطبيبُ مريضُ هذه بالتأكيد ليست أبيات من شعر الغزل و لكنها بعض من حِكَم شعراء العرب التي تجسد واقع القائمين علي أمر بلادنا الذين يعانون، دون إستثناء، حالة من الزهو و جنون العظمة و تعدد الشخصية. تبدو عليهم مظاهر رجالات الدولة عندما يتحدثون عن الإقتصاد و عن الفساد و لكل واحد منهم شِقَاً آخر غارقاً حتي أخمص قدميه في الفساد و لا وجود لأسس و معايير أخلاقيات المهنة في قواميسهم، يظهرون بياقاتهم الوردية الزاهية و يبدو عليهم الوقار و هم يتحدثون عن النمو الإقتصادي و إرتفاع قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية الصعبة و علي جباههم سمات لصلاة لم تنهاهم عن فحشاء أو منكر، و لكنهم كقصص إزدواج الشخصية في روايات دكتور جيكل و السيد بروكس في داخل كل واحد منهم مجرم محترف لا يرحم و لا يتورع في القتل و في التعدي علي أموال الشعب و حرماته و في ممارسة الأنشطة الهدامة (التي أدت إلي التدهور الإقتصادي المريع الذي تعيشه بلادنا اليوم) بكل هدوء و برود و هم جالسون علي مكاتبهم و أبراجهم العاجية، يتحدثون عن الشفافية و الصدق و تجدهم يمارسون الكذب علي الملأ دون حياء و بلا حدود أو تلعثم و واقع الحال يفضحهم كما قال عنهم أديبنا الراحل الطيب صالح في خاطرته من أين أتي هؤلاء (هل ما زالوا يتحدَّثون عن الرخاء و الناس جوعي؟ و عن الأمن و الناس في ذعر؟ و عن صلاح الأحوال و البلد خراب؟) و عندما تستمع لوزير المالية أو محافظ بنك السودان أو وزير التعدين أو الصناعة أو طيب الذكر الخبير الوطني ربيع عبد العاطي أو أي واحد منهم يتحدث عن قضايا البلاد تعتقد بأن السودان قد أصبح دون علمك من الدول الثماني العظمي للدرجة التي يكاد فيها عقلك أن يصدق كل تلك الأوهام. الإحتمال الثاني: هو أن يكون السيد المحافظ السابق بالفعل من المتعاملين بالعملة بيعاً و شراءً خارج القنوات الرسمية فكل حيثيات البلاغ حسبما تداولته الصحافة و الأسافير تشير إلي توافر كل أدوات الإتجار بالعملة. فوجود 28 ألف يورو و 32 ألف دولار و بعض المبالغ بالعملة المحلية و العملات الأجنبية كما جاء في الراكوبة بتاريخ 28 أغسطس 2016م قد يعتبر دليلا قويا علي جريمة الإتجار بالعملة خاصة و أن قيمة المبالغ المسروقة من مكتبه مجتمعة تفوق قيمة المبالغ التي تم ضبطها في منزل الشهيد مجدي محجوب و كانت سببا في رحيله ضحية لجريمة إعدامه المدبرة سلفا و التي لن تُمحي من ذاكرة شعبنا مهما طال الزمن. فعلي السيد المحافظ لنفي هذا الإحتمال أن يبين للناس مصادر هذه العملات الصعبة بالأدلة و المستندات و يشرح بالبراهين مبررات تواجدها في مكتبه بدلا عن حسابه في البنك. و كان حريٌ بالضابط أو العسكري الذي دون البلاغ أن يسأله عن مصدر هذه الأموال و المستندات الدالة علي نظافتها و سلامتها من الناحية القانونية و خلووها من شبهة الإتجار بالعملة خاصة و أن الحكومة قد شنَّت خلال الفترة القليلة الماضية حملة علي تجار العملة و اعتقلت العديد منهم في العاصمة الخرطوم و في غيرها من عواصم بعض الولايات الأخري و تم الإفراج عن العديد منهم لعدم وجود دليل بينما كل القرائن و الأدلة في حالة سرقة مكتب السيد المحافظ السابق ترجِّح وجود نشاط تجارة العملة. و إن صح هذا الإحتمال فالأمر في هذه الحالة يتعدي الإخلال بأخلاقيات المهنة و يدخل في نطائق الجرائم الإقتصادية الكبري التي تؤدي إلي تدمير الإقتصاد القومي و إلي ارتفاع معدلات التضخم و إنهيار، ليس فقط القيمة الإسمية للعملة الوطنية، بل أيضا إلي إنهيار قيمتها الحقيقية التي تفقد منتجات بلادنا قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية حتي لو نجحت الدولة في زيادة الصادرات للمستويات المطلوبة لأن إنخفاض القيمة الحقيقية للعملة المحلية يعني إرتفاع تكاليف الإنتاج و بالتالي إنخفاض العائد من الصادرات لمستويات متدنية جدا و بالتالي تصبح عملية التصدير غير ذات جدوي بالنسبة للمصدرين فيلجأون للإستيراد بدلا عن التصدير أو للمضاربة في السوق المحلي أو للتهريب و هو ما يحدث بالفعل لكثير من المنتجات المحلية الإستراتيجية التي كان يعتمد عليها الإقتصاد الوطني و علي رأسها الصمغ العربي و الجلود و الذهب و التي يتم تهريبها لإثيوبيا و تشاد و مصر و غيرها و يتم إعادة تصديرها من تلك البلدان بشهادات منشأ صادرة من تلك البلدان التي تستفيد هي لوحدها من حصيلة إعادة تصدير تلك المنتجات. فمن المعروف أن سعر الصرف الإسمي هو مقياس عملة إحدى البلدان التي يمكن تبادلها بقيمة عملة بلد آخر و تتحدد قيمته وفقا لآلية العرض و الطلب بينما سعر الصرف الحقيقي يمثل عدد الوحدات من السلع الأجنبية اللازمة لشراء وحدة واحدة من السلع المحلية، وبالتالي يقيس قدرة المنتجات المحلية على المنافسة في الأسواق الخارجية فكلما إنخفض سعر الصرف الحقيقي كلما أدي ذلك إلي إنخفاض الصادرات نسبة لارتفاع تكاليفها و زيادة الواردات لأنها أكثر ربحية بالنسبة للتجار و هذا ما يحدث في بلادنا حيث تجد أن أسعار الكثير من السلع المستوردة و خاصة الإستراتيجية منها كالسكر و الدقيق أقل من أسعار نظيرتها من السلع المحلية. الإحتمال الثالث: هو أن يكون السيد الدكتور صابر يعمل علي الإحتفاظ بمدخراته من العملة المحلية بتحويلها لعملات صعبة كحالة كثير من الناس (ليس فقط التجار) الذين إتجهوا خلال السنوات الأخيرة إلي مثل هذا الحل لحماية مدخراتهم النقدية من مخاطر التدهور المريع في قيمة العملة المحلية. و إن صح هذا الإحتمال فإنه أيضا يعتبر من الأنشطة الهدامة التي تؤدي إلي تدهور قيمة العملة الوطنية و ذلك لأن مثل هذا النشاط أولا: يعتبر شكل من أشكال الإتجار بالعملة مهما كان حجم المدخرات من العملة المحلية التي يتم استبدالها لأن عملية التداول تتم في في السوق الأسود في مرحلة الشراء بغرض الإحتفاظ و أيضا في مرحلة البيع وقت الحاجة للعملة المحلية و ثانيا: لأن المدخرات من العملة المحلية عادة تكون موجودة في البنوك و عند الرغبة في تحويلها لعملة صعبة يتم سحبها من البنوك الأمر الذي يؤثر سلبا علي حجم السيولة في البنوك و يؤدي إلي تراجع حجم الودائع فيها الأمر الذي يؤدي في المدي المتوسط و الطويل إلي إضعاف قدرة البنوك علي تمويل القطاعات الإنتاجية و ثالثا: لأن العملة التي يتم شرائها من السوق الأسود لا يتم الإحتفاظ بها في البنوك بل في الخزائن الخاصة في البيوت أو في المكاتب كحالة بلاغ الدكتور صابر المشهود و هو ما يؤدي (بل أدي بالفعل) علي عدم قدرة البنوك علي توفير العملة و تمويل التجارة الخارجية لعدم توافر العملات الصعبة لديها مما دفع بالبنك المركزي لإصدار المنشور رقم (9/2015) بتاريخ 3 نوفمبر 2015م الذي قنَّن السوق الأسود بشكل غير مباشر و سمح بالإستيراد بدون تحويل العملة (Nil Value). الإحتمال الرابع: هو أن يكون الدكتور صابر يحتفظ بالعملات الصعبة نقدا للتعامل بها كوسيلة تبادل في التجارة المحلية في بعض السلع كالأراضي و العقارات و المزارع الخاصة و الفنادق و غيرها من الأصول القيِّمة ضمن نطاق سوق خفي وليد يتم التعامل فيه محليا بين كبار رجالات الدولة و تجار المؤتمر الوطني و بعض حلفائهم من رجال الأعمال و يتم فيه التبادل بالعملات الصعبة سواء بالدفع نقدا داخل البلاد أو إيداع العملة الصعبة في حسابات المتعاملين في هذه السوق في الخارج من خلال شركات خاصة في الخارج مملوكة لنفس الفئات المذكورة تعمل علي تجميع العملات الصعبة من المغتربين و المهاجرين و غيرهم. و إن صح هذا الإحتمال فهو أيضا يعد من الجرائم الإقتصادية الكبري المدمرة للإقتصاد الوطني و ذلك لأنها أولا: تعتبر تقنين لما يعرف في الإقتصاد بالإحلال النقدي (و قد تطرقنا له في سلسة حلقات سابقة بعنوان قرش رضينا و يوان الطفل المعجزة) و الذي يسمح بالتعامل بالعملات الأجنبية في السوق المحلي الأمر الذي يؤدي إلي إضعاف العملة الوطنية و ينطبق عليه بالتالي عكس قانون كريشام بأن النقود الجيدة تطرد النقود الرديئة و يصبح التعامل بالعملة الصعبة خارج القنوات الرسمية بديلا للعملات المحلية مما يؤدي إلي تدهور قيمة العملة المحلية و يضع الإقتصاد الوطني في حالة التضخم الركودي و هو حالة مستعصية تعيشها بلادنا اليوم حيث تتضاعف فيها معدلات التضخم و في نفس الوقت تنخفض فيها القوة الشرائية و تتزايد معدلات البطالة خاصة بين الشباب و حديثي التخرج و ثانيا: لأنها أيضا تعتبر صورة من صور الإتجار في العملة لأن الحصول علي العملات الصعبة يتم خارج القنوات الرسمية بجانب كونها من الأنشطة التي تتوافر فيها كل قرائن و مؤشرات غسيل الأموال عبر الإتجار في شراء و بيع العقارات و الأصول ذات القيمة العالية و هو ما يدخل أيضا ضمن نطاق الأنشطة الهدامة التي تؤدي إلي تدمير الإقتصاد الوطني. صحيح أن تجارة العملة أصبحت من الممارسات العادية جدا لكبار رجالات الدولة و أجهزتها الإستراتيجية و تجار المؤتمر الوطني و أزيالهم و أتباعهم من كبار رجال الأعمال بل و تحولت كثير من مكاتب كبار العاملين بالبنوك مرتعا لترتيب صفقات تجارة العملة. و صحيح أن خزائن القائمين علي أمور بلادنا في مكاتبهم و في قصورهم العاجية تكتنز ضروبا لا تحصي أو تعد من أصناف العملات الأجنبية. لكن حادثة بلاغ الدكتور صابر محمد الحسن أمرٌ جلجل تستمد أهميتها من كون الرجل يمثل أعلي قمم و مستويات السياسة النقدية و المصرفية حيث كان محافظا لأعلي سلطة نقدية في البلاد كما ذكرنا و حريٌ به أن يجسد مبادئ و أسس الأخلاق المهنية و الإلتزام بتعليمات البنك المركزي و سياساته النقدية التي هو من واضعيها و أيضا أن يضرب مثلا من الإنضباط و النزاهة ليس فقط للعاملين في بنك أمدرمان الوطني باعتباره رئيسا لمجلس إدارته بل أيضا لكل العاملين في القطاع المالي و المصرفي و أن يحترم شعبنا الذي تكفل بتعليمه خصما علي قوت يومه في كل مراحله التعليمية حتي نال درجة الدكتوراة و يحفظ له الجميل و يتمثل بخلقه و تقاليده و قيمه. [email protected]