إذا قيل لك أن المدارس الحكومية تقوم بفرض رسوم على التلاميذ، حتى للجلوس للامتحان، فلن تصدق. وإذا قيل لك، إن تلك الرسوم تصل في بعض المدارس، إلى مائتي جنيه بالتمام والكمال، فلن تصدق وسوف تصعقك الصدمة. ذلك أن الحكومة – في أعلى مستوياتها – ترفع عقيرتها بمجانية التعليم، وتزعم أنها بسطت الدُور التعليمية مجاناً أمام التلاميذ والطلاب..! لكن إذا تفحصت واقع التعليم المدرسي في السودان، ستجد أن المدارس الحكومية - وليس الخاصة - تتسابق في فرض الرسوم على التلاميذ بمبررات عدة، وخصوصاً التلاميذ الجدد، مع أن ذلك يعد أولى قواصم ظهر التعليم، في بلد طالت فيه الأمية أكثر من ثلث السكان، وتزحف لتقضي على ثلثه الآخر..! الثابت، أن مثل تلك الرسوم الجبرية، بجانب أنها تفضح مزاعم الحكومة حول شعار مجانية التعليم، فإنها تسهم بشكل وافر، في إنتاج مزيد من الفاقد التربوي، وتفتح نوافذ جديدة لتشرد الأطفال، وحرمانهم من التعليم. وهو ما يؤدي – بدوره – إلى زيادة كبيرة في معدلات الجريمة والانحراف والبطالة، فضلاً عن أنه يراكم أعداد أعداداً جديدة للأطفال المحرومين من التعليم، البالغ عددهم ثلاثة ملايين. وظني أن ذلك دليل عملي آخر، على فشل حكومة الإنقاذ في مجال التعليم، الذي بلغ درجة متأخرة من الانحطاط. وهو ما يؤكده وقوع طلاب الحزب الحاكم ممن يتمرغون في نعيم الدولة دون غيرهم، في أخطاء إملائية فجة..! الشاهد أن الرسوم الدراسية ظلت حاضرة بقوة في كل أيام السنة الدراسية، وهو ما جعل كثيرين يسعون إلى مناهضتها بالسبل السلمية، خاصة بعدما أقدمت بعض المدارس الحكومية على الاتجاه نحو القبول الخاص من أجل الحصول على الأموال، وذلك عن طريق تخصيص فصل داخل المدرسة الحكومية يتم القبول له بالتقديم الخاص، في حالة أشبه بالطريقة التي لجأت إليها الجامعات الحكومية بما فيها ذات التاريخ الناصع..! قناعتي، أن هذا السلوك يتماهى تماماً مع سياسة التجنيب وتحصيل الأموال التي أضحت ديدن غالبية مؤسسات الجهاز التنفيذي. وظني أن ذلك وحده كفيل بإسكات الذين أصموا آذاننا بشعار مجانية التعليم، الذي ثبت أنه شعار كذوب، كما ذكر رئيس الجمهورية المشير البشير بنفسه. المثير في القصة كلها، أن الرسوم المفروضة جبراً على تلاميذ الأساس، وطلاب الثانوي والجامعات، تتنافى مع الدستور والقوانين التي استنتها الإنقاذ نفسها، أما المؤسف فهو أنها تفتح نفاجاً نحو الجهل والأمية، ويُعرِّي الحكومة التي لا تريد أن تحتفي بالنجاح الجزئي الذي أحدثته مبادرة "التعليم مقابل الغذاء"، التي نفذها والي البحر الأحمر السابق محمد طاهر إيلا، في سبيل حث أولياء أمور التلاميذ لإرسال أبنائهم إلى الدور التعليمية، في بلد تشهد ارتفاعا مفزعاً في نسبة تسرب الطلاب من المدارس. وبدلاً من تطوير مثل هذه الأفكار المغايرة تعمد الحكومة إلى تعسير التحاق الطلاب بالتعليم، في بلد تصل فيه نسبة الأمية إلى أرقام كبيرة جداً، لا تتناسب مع تاريخ الوعي والاستنارة التي بدأت مبكراً في السودان، وهو ما يؤكد على أن العملية التعليمية في البلاد تُدار بشكل يرقى لأن يوصف بأنه عشوائي. الصيحة