الوارد في القرآن والسنَّة باجماع أهل السنة، هو الإيمان؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)، وجاء في الأثر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سأله جبريل عن الإيمان: (أن تؤمِن بالله وملائكته وكتُبه ورسله واليوم الآخِر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه). ليس غريباً أن يستخدم القرآن والرسول صلوات ربي عليه وسلامه كلمة (الإيمان) بينما يستخدم المسلمون كلمة (عقيدة)، ثم يردوا على من أنكر اللفظة بقولهم (وإن قيل: لا يجوز شرعًا استعمال مصطلح عقيدة؛ لأنه لم يرد في كتاب الله – عز وجل – ولا في سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجوابه: أن لا مشاحَّة في الاصطلاح)، لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان محتوى المعنى هو نفسه، وإذا افتقر القرآن لكلمة (إيمان)، وذلك لأن الفارق بين العقيدة والايمان شاسع جداً. مفهوم الايمان من المفاهيم التي تقبل (التدرج) من القوة إلى الضعف، فإيمان النبي الكريم صلوات ربي عليه ليس كإيماني أنا ولا ايمانك أنت، وكلنا مؤمن، وهذا ما يسمى في علم المنطق بالكلمات (المشككة)، فنرى مثلاً بياض الثلج أشد بياضاً من بياض القرطاس، وكل منهما أبيض. وعدد الألف أكثر من عدد المائة، وكل منهما عدد. ووجود الخالق أولى من وجود المخلوق، ووجود العلة متقدم على وجود المعلول بنفس وجوده لا بشيء آخر، ولكل منهما وجود. بينما مفهوم العقيدة لا يقبل التدرج take it or leave it، ومن هنا يبدأ حوار zero sum game، فالمتحاوران لا بد أن يكونا (كافر مقابل معتقد) أي بمعنى أن صاحب العقيدة لا يمكنه التنازل عن أي جزء من عقيدته وإلا انهار البناء العقائدي كله، لذلك تجد بعض أصحاب العقائد يكفر منكر (سحر الرسول) أو (ظهور المهدي) على سبيل المثال، حتى وإن آمن بالقرآن كله وصحيح أفعال الرسول كلها، واجماع الأمة، طالما أنكر في تصورهم ركن من أركان العقيدة، لأن العقيدة هي من الأمور والقضايا التي لا تقبَل الجدال ولا المناقشة وبالتالي ينتج عنها الصدام والاحتراب. فلا غرو ولا غرابة والحال كذلك أن يسأل الخليل المؤمن عليه الصلاة والسلام ربه (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ) وحينما سأله ربه (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن)، أجابه (قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ليطمئن قلبي تُلغي تماماً أي وجود وجود للعقيدة وتمكن للايمان في القلب (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا) وفي سياق آخر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…) من كان مؤمناً بالرسالات السابقة ثم آمن بمحمد عليه الصلة والسلام فسيزداد إيماناً على إيمانه، بينما صاحب العقيدة يقول "العلم ما طابق اعتقادي"، وبالتالي لا مجال له أن يسأل غيره عن صحة قوله، أما صاحب الإيمان فيرى أن عليه معرفة الحقيقة تدريجياً طالما هو داخل السياق العام للايمان، وبالتالي فإن كل عقيدة يتبناها تمثل خطوة في طريق طويل يقود إلى الحقيقة، فهو لا يرى نفسه قد وصل أبداً لأن معرفة الله والحقيقة هي من علم الله ذاته سبحانه وتعالى فهو في سير لا ينقطع وتبدل من حال إلى حال وترقي وعروج في مقامات العرفان، ينكر ذاته ومعتقداته إذا ما بان له من الله نور. (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) لذلك هو مؤمن حقاً وليس معتقداً متحجراً فهو في حالة عروج لا يكتمل وايمان ينمو وله بداية وليس له نهاية فمعرفة الحق تعالى لا يدركها البشر. يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وسيحاسبون وفق ايمانهم. (في كتابه حكمة القلق The wisdom of Insecurity يقول (واتس) Belief clings, but faith lets go، بمعنى أن الاعتقاد يقبض علينا عقولنا بينما الايمان يحررنا، ويترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، فالمؤمن يتحول ويتبدل دوماً، ويعيش سيلاناً وسيرورة متواصلة، ويضرب لذلك أمثلة مفيدة ويقول: ليس بإمكانكم اغتراف ماء جارٍ من النهر بالدلو، فبمجرد أ تغترفوه سيكف عن جريانه، وإذا أردتم ماءً جارياً يجب أن تطلقوا سراحه، وهكذا لو أراد الانسان القبض على الحقيقة، أي لو أراد أن يتطابق رأيه مع الواقع، فيجب أن يتقبل التحول لمواكبة الحقيقة للواقع، ويوطن نفسه على تحريك عقائده بحركة الواقع، لذلك يقول: إن الايمان هو طلب الحقيقة غير المستقرة القلقة، بينما يحاول الاعتقاد ايقاف الحقيقة غير المستقرة، ومنحها الاستقرار، وبمجرد أن يحدث ذلك لن تعود الحقيقة حقيقة، فالواقع متبدل ومتطور، ولا يمكن التمسك بفكرة حول الواقع والقول هي الواقع، وإذن لا بد أن نستعد دوماً لتحويل معتقداتنا وتغيير متبنياتنا.) عن العقلانية والمعنوية للكاتب مصطفى مليكان. لا تقتصر الوثنية على عبادة الحجر والخشب والشجر إنما هي عبادة ما سوى الحق، قد تكون عقيدة العلم التي تفسر كل شيء بالعلم وتنكر وجود الله المفارق للخلق، كل ذلك يقع تحت (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، يقول مصطفى ملكان في ذات المرجع في غير مكان (والعجيب أن اريك فروم يسمي في كتابه: "علم النفس والدين" هذا النمط من التدين الذي لا يسمح صاحبه لأحد بعرض معتقداته على الواقع، يسميه idolatry أي عبادة الأوثان، ومن المثير أن تكون كلمة idol بمعنى الوثن أو الصنم مشتقة من idea بمعنى العقيدة، وكلا الكلمتين من أصل يوناني).. السؤال هل إدخال مصطلح عقيدة كان لدواعي التفرقة بين الفرق الاسلامية المؤمنة على شاكلة العقيدة المعتزلية والأشعرية والطحاوية والماتريدية والثني عشرية والاباضية والزيدية والصوفية وغيرها من العقائد التي لا يمكن حصرها ولا عدها؟ ويظل ما أقوله، هو مجرد إيمان قائم على ما توفر لدي من معلومات، وسيظل صحيحاً في تصوري إلى أن تدحضه قراءة جديدة، فلا تغضب أيها القارئ ولا تمتعض، فأنت لست ملزم بالأخذ به وإنما فقط الرد عليه، فالحجاج بالأدلة هو السبيل الوحيد لبلوغ الرشد العقلي. ومرحباً بمن يعترض ففي اعتراضه إضافة، ولاطالة كانت ضرورة لأن الفكرة معقدة. صديق النعمة الطيب