ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    القبض على تاجر مخدرات بتهمة غسل 40 مليون جنيه    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    "مطارات دبي" تدعو المسافرين التحقق من حالة رحلاتهم "الحالة الجوية السيئة"    من الزيرو إلى الهيرو    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    البنى التحتية بسنار توفر اطارات بتكلفة 22مليون لمجابهة طوارئ الخريف!    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظام سعر الصرف الجديد: مآزق التصميم والتوقيت
نشر في الراكوبة يوم 13 - 03 - 2021


ملخص:
لا شك ان تعدد أسعار الصرف مشكلة حقيقية أساسية واجبة المعالجة ولكن الشيطان في تفاصيل المعالجة وفي مداها الزمني وترتيب وتعاقبية خطوات الإصلاح. أتي قرار الانتقال إلى سعر صرف أكثر مرونة في توقيت غير مواتي وفي غياب كامل لشروط الانتقال الناجح. وغالبا سيدخل السودان تاريخ أدبيات التنمية كحالة فريدة يتم فيها الانتقال في أوضاع ضعف اقتصادي وسياسي شامل. النظام الجديد لا يستوفي شروط التعويم الحر ولا المرن المدار فهو أقرب إلى نظام ربط ضمن نطاق تقلب زاحف حظه ضعيف في توحيد أسعار الصرف وأوهن في القضاء على السوق الأسود المتمرس.
لا يهدف الفحص النقدي للسياسة الاقتصادية إلى تثبيط عزيمة الحكومة أو اكتشاف عيوبها وانما التأكيد على أنه لإدارة الاقتصاد بفعالية، يحتاج صانع القرار أولا إلى امتلاك إدراك واقعي وواضح بآلياته وطرق عملها وطرق عمل أسواقه المختلفة.
مدخل:
في 21 فبراير 2021 أعلنت الحكومة الانتقال إلى نظام سعر صرف جديد – 375 جنيه للدولار بدلا عن 55 جنيه، السعر الرسمي السابق. تضاربت الآراء حول طبيعة النظام الجديد وهل هو تعويم ام مرن مدار.
حسب النظام الجديد المعلن يبدو ان البنك المركزي سيحدد سعراً تأشيرياً يومياً في ظل نظام سماه "تعويم مرن مُدار". ويتعين على البنوك ومكاتب الصرافة التداول في حدود 5٪ أعلى أو أقل من هذا السعر. كما حدد البنك المركزي هامش ربح بين أسعار الشراء والبيع لا يزيد عن 0.5٪. وهذا يشير إلى ان النظام الجديد هو أقرب لنظام صرف مربوط ضمن نطاق تقلب زاحف. وفي ضربة البذية من بنك السودان كان الربط عند 375 جنيها للدولار والنطاق هو +/- 5٪ والزحف يأتي من مقدرة البنك المركزي على تغيير الربط أو مدى النطاق.
رغم ارتباك الخطاب الحكومي فيما يتعلق باسم النظام الجديد الا ان هذا المقال يهدف لنقاش التحول من سعر صرف ثابت إلى نظام أكثر مرونة وتظل القضايا التحليلية التي يثيرها المقال مناسبة غض النظر عن طبيعة النظام الجديد الأكثر مرونة وعما إذا كان تعويماً أم مرناً مداراً أم ربطاً ضمن نطاق تقلب. لذلك تقرأ أي إشارة إلى النظام الجديد كحركة نحو نظام أكثر مرونة وليس بالضرورة إلى نظام محدد.
من الواضح الذي لا جدال فيه ان السياسة الجديدة لم تنبع من إرادة وطنية ولا في سياق خطة اقتصادية متكاملة ومدروسة ومتسقة، بل أتى تحت ضغوط من صندوق النقد والمانحين ثم استجابت الحكومة لإرضائهم للحصول على دعمهم المشروط الذي رهن تقديم أي دعم بتغيير نظام الصرف ورفع الدعم. وتأتي هذه المشروطية في مسلسل تغول على السيادة الوطنية – بموافقة الحكومة – في أهم ملفات الاقتصاد والسياسة الخارجية. ولهذه الأسباب فإن في القرار عيباً تكوينياً بما أن سعر الصرف في أي اقتصاد هو أحد أهم ثلاثة أسعار، أما في السودان فهو السعر الأهم وادارته يجب ان تكون عن دراسة متعمقة وان يأتي أي تحول هام في إطار حزمة كاملة من السياسات المالية والنقدية الداعمة بدلا عن أن يأتي حصريا من أجل جذب دعم خارجي غير مستدام مهما ارتفعت وتائره في المدي القريب.
شروط الانتقال الناجح إلى نظام سعر صرف مرن في أدبيات الصندوق:
نبدأ بعرض أدبيات الصندوق الرسمية فيما يختص بأفضل السبل للتحول من سعر صرف ثابت لنظام أكثر مرونة لإبراز انه حتى في فقه الصندوق فان التحديثات السودانية الأخيرة لا تستوفى الشروط الأساسية لتحول ناجح ومستدام وهي أقرب إلى قفزة في ظلام.
أكد المجلس التنفيذي للصندوق عدم افضلية أحد أنظمة سعر الصرف على الأنظمة الأخرى وشدد على أهمية سياسات اقتصاد كلى سليمة ومتسقة لحماية أي نوع من الأنظمة تختاره الدولة المعنية، ثابتًا كان أو معوماً أو ما بينهما وتشمل هذه السياسات الانضباط المالي، ومصداقية السياسة النقدية، والقطاع المالي المعافى.
وتشير أدبيات الصندوق إلى أن العبور الناجح يحتاج بشكل عام إلى استيفاء شروط مهمة منها:
– سوق صرف أجنبي عميق وسائل (من السيولة). وهذا الشرط لا يتوفر في السودان فسوق الصرف الذي يهيمن عليه السوق الأسود غير متماسك ويتمتع بدرجة من الفوضى والتشظي داخل السودان وبين مدن الخليج ومدن الغرب والمهاجر المختلفة حيثما تواجد سودانيون.
– أيضا يتطلب نجاح الانتقال امتلاك البنك المركزي لأدوات تدخل فعالة ومتماسكة في سوق الصرف تتيح له التدخل للتأثير في الاتجاه المطلوب مثلا بضخ عملات اجنبية لتهدئته عند اللزوم وتوجيه التوقعات بغرض تخفيف الضغوط. وتشمل أدوات التدخل التقليدية أيضا أسعار الفائدة التي يمكن تحريكها للتأثير على سعر الصرف. من الواضح ان هذه الأدوات لا تتوفر للبنك المركزي بما يتيح له إدارة نظام بأدوات اقتصادية وليست ادارية. وغياب هذه الأدوات يعني ان النظام الذي اختارته الحكومة عمليا سيكون أقرب إلى التعويم الحر في حال سيادة المرونة التي تعني أن يطارد السعر/النطاق الرسمي سعر السوق الأسود بصورة أسبوعية إن لم تكن يومية وان عجز عن ذلك تنتفي خاصية المرونة ونعود إلى نفس نظام الصرف القديم الذي يتسم بوجود سعر رسمي تم تخفيضه عن 55 جنيها ولكن تخطاه السعر الحر ليفرض السوق الأسود هيمنته مرة أخرى بأسعار اعلى.
– يحتاج الانتقال الناجح أيضا إلى أنظمة مناسبة لإدارة مخاطر تقلبات سعر الصرف في القطاعين العام والخاص اذ يؤدي الانتقال إلى سعر أكثر مرونة إلى ضغوط على مؤسسات القطاع العام والخاص التي لديها التزامات بالعملات الأجنبية. لدعم الانتقال لنظام أكثر مرونة من المهم تطوير أنظمة لإدارة مخاطر الصرف الأجنبي مبكراً وبناء القدرات والسلطات الإشرافية لتنظيم المخاطر ومراقبتها. وتشمل القدرات المطلوبة أنظمة المعلومات لرصد المخاطر والأساليب التحليلية لقياس مخاطر تقلبات سعر الصرف ومراقبة وتقييد القروض والالتزامات بالعملات الأجنبية.
ومن الواضح أنه لا يوجد حالياً نظام لرصد المخاطر وإدارتها بفعالية. كما تشير تقارير الصندوق إلى أن التعويم يهدد تسعة بنوك بالانهيار. فقد ورد في أحد تقاريره في عام 2020 إلى أن نتائج الاختبارات تشير إلى أن تسعة بنوك (اثنان منهما بأهمية حاسمة لكامل النظام) قابلة للعطب (الإفلاس/ التعسر) في حال تخفيض سعر الصرف.
– تذكر أدبيات الصندوق أيضا أن من اهم متطلبات الخروج من سعر الصرف الثابت إلى نظام أكثر مرونة اعتماد ركيزة اسمية بديلة وذات مصداقية في سياق إطار جديد للسياسة النقدية. قليل من الدول يمكنها تطبيق أنظمة مرنة دون وجود ركيزة اسمية رسمية – مثل منطقة اليورو، وسويسرا، والولايات المتحدة وسنغافورة فتلك الدول راكمت رصيداً عالياً من المصداقية اللازمة للحفاظ على استقرار الأسعار بدون ركيزة رسمية. ولكن في البلدان التي عانت من تاريخ من التضخم المرتفع يكتسب وجود ركيزة اسمية بديلة أهمية خاصة.
وقد نشأ توافق آراء واسع على ان استهداف التضخم هو أفضل ركيزة اسمية موثوقة وفعالة. في هذه الحالة تعلن السطات في بداية العام معدل تضخم مستهدف (قل 3 في المئة أو أي نسبة أخري) وتنجح في تحقيقيه سنة بعد اخري بما يدعم من مصداقيتها والتزامها بحماية نظام الصرف المرن بسياسات اقتصاد كلي متسقة وداعمة.
الركيزة الاسمية للسياسة النقدية هي متغير أو أداة يستخدمها البنك المركزي لحصر وتحديد التوقعات التي يكونها القطاع الخاص عن مستوى الأسعار أو مسارها أو حول ما قد يفعله البنك فيما يتعلق بتحقيق هذا المسار. تنبع أهمية التوقعات من قدرتها على تحقيق نفسها حتى في غياب أسباب اخري لحدوث التضخم بالمستوي المعين – بمعني حدوث التضخم فقط لان السوق توقع حدوثه أو وقوعه بنسبة أعلى مما تستدعيه العوامل الاقتصادية الحقيقية الأخرى بإضافة مساهمة التوقعات.
وكما هو معلوم فإن التضخم يلتهم الدخل الحقيقي للمواطن، وبالذات الطبقات الدنيا، وأيضا يثبط الاستثمار لان المستثمر المحتمل يعجز عن التنبؤ بتكاليفه ومبيعاته وارباحه المحتملة. وفي غياب درجة من اليقين عن مسار الأسعار تصبح الأنشطة التجارية والمضاربات أكثر ربحية من الإنتاج الصناعي والزراعي وبالتالي يحدث إضعاف مطلق أو نسبي لهذه القطاعات الإنتاجية ذات الأهمية الحاسمة لأي تحول تنموي حقيقي.
تساعد الركيزة الاسمية على تعزيز استقرار الأسعار من خلال ربط توقعات التضخم ورفع مصداقية السياسة واجبار الحكومة على الانضباط المالي وتقييد سلطتها التقديرية في تنفيذ سياسات لتحقيق أهداف قصيرة المدى ولكنها تكون عواقبها السلبية على الاقتصاد أكثر كلفة وضررا في المدى الطويل (مثل رب رب).
لا يمكن إنشاء ركيزة اسمية بدلا عن سعر الصرف الثابت بين عشية وضحاها، ولكنه يتطلب إعدادًا مثابرا في إطار سياسة نقدية موثوق بها تتماشى مع نظام سعر الصرف الجديد بما في ذلك منح الأولوية لاستقرار الأسعار وسيادة ذلك الهدف على الأهداف المنافسة مثل تمويل عجز الموازنة أو زيادة الصرف الحكومي.
ومن المهم أيضا استقلالية البنك المركزي وتفويضه لمتابعة نسبة التضخم المستهدف والمعلن عنه باعتباره الهدف الأعلى للسياسة النقدية وبناء قدراته على التنبؤ بالتضخم واتخاذ إجراءات كفيلة ب بالحفاظ على استقرار الأسعار.
كما يستدعي نجاح البديل ضمان الشفافية والمساءلة في إدارة وإجراء وتقييم السياسة النقدية. ويتطلب العبور أيضا سياسة مالية داعمة لا تغذي التضخم وأيضا قطاع مالي منظم مراقب ومُدار جيدًا من قبل البنك المركزي حتى تتسق سياساته الائتمانية مع المحافظة على استقرار الأسعار وسوق الصرف.
– تشير أدبيات الصندوق الرسمية أيضا إلى الأهمية الحاسمة لإدارة توقعات سوق الصرف الأجنبي وضرورة ضمان وجود مخاطر في اتجاهين صعودا وهبوطا للأسعار. عدم اليقين بشأن مستوى وتقلبات سعر الصرف والسياسات الاقتصادية عموما في ظل النظام المرن من طبيعته ان يزعزع التوقعات ومن الممكن أن يؤدي ارتفاع التضخم وعدم اليقين بشأن الإيرادات المالية ونمو الناتج المحلي الإجمالي إلى إثارة الشكوك حول مصداقية سياسات الاقتصاد الكلي وحول السياسة النقدية وسعر الصرف الجديد.
لنجاح سعر الصرف المرن من الضروري وجود مخاطر في الاتجاهين؛ أي ان تشمل التوقعات ارتفاع أو انخفاض سعر الصرف لتجنب ايمان السوق بأن سعر الصرف يتحرك في اتجاه واحد فقط الشيء الذي يخلق حوافز للمضاربة ويشجع ويضخم توقعات عن المستقبل تفاقم الضغوط على سعر الصرف في الحاضر وما بعده.
– يقول الصندوق أيضا إلى أن أفضل الاوقات للانتقال إلى مزيد من المرونة في أسعار الصرف هو أثناء فترة هدوء نسبي في أسواق الصرف أو عندما تكون هناك ضغوط ترفع قيمة العملة الوطنية كما يعتبر درجة التطور المؤسسي والسوقي محددًا رئيسيًا للوتيرة المناسبة للخروج إلى النظام المرن. كما أن مرونة سعر الصرف مرغوبة أكثر في البلدان المندمجة لحد كبير في أسواق المال العالمية، وأن فوائد المرونة تزداد مع مستوي التنمية الاقتصادية والمؤسسية. وهذا يعني ان مخاطر التعويم تزداد (وفوائده المحتملة تتناقص) في الدول التي تفتقد القدرات المؤسسية وتفتقد الانضباط المالي الذي يتمظهر في عجوزات مزمنة وكبيرة في الموازنة يتم تمويلها بالعجز (طبع الكاش كما هو الحال في السودان).
يتضح مما ذكر أعلاه ان توقيت الانتقال إلى سعر صرف مرن في السودان هو الأسوأ. على العكس من مستحقات الانتقال الناجح، يعاني السودان من معدل تضخم فاق على أساس شهري 300 في المئة وعجز هائل في الموازنة يتم تمويله بطباعة العملة وأيضا توجد شبهات حول طباعة واسعة للعملة غير المسجلة وخارج دفاتر الحكومة. كما يعاني البنك المركزي من احتياطٍ يقارب الصفر من العملات الأجنبية. أضف إلى ذلك جموح وانفلات سوق الصرف، وأن كل الضغوط. أضف إلى ذلك جموح وانفلات سوق الصرف وان كل الضغوط التي تعرض لها سعر الصرف في السنين الأخيرة كانت في اتجاه تخفيض قيمة العملة السودانية لا رفعها وهذا نقيض لملاحظة الصندوق أن أفضل الأوقات للانتقال لنظام مرن هي حالات هدوء سوق العملة و/أو اتجاه قيمة العملة الوطنية نحو الارتفاع.
يمكن أن نستنتج بسهولة أنه بناءً على أدبيات الصندوق الرسمية والمنشورة فان السودان قرر أو تم دفعه للانتقال في أسوأ ظرف اقتصادي-سياسي ممكن ساد فيه التضخم وهزال المؤسسات وضعف أوضاع الاقتصاد الكلي وسيادة التوقعات أحادية الاتجاه وغياب الركيزة الاسمية وضعف الاندماج في الاقتصاد العالمي وبدائية نظم إدارة مخاطر سوق الصرف وضعف المقدرات على التنبؤ بالتضخم ما يمكن تقييمه من تنبؤ موازنة 2020 بمعدل تضخم في حدود 30 في المئة ولكن بنهاية العام كان معدل التضخم الرسمي 148 في المئة وهذا يعني ان المعدل المتحقق للتضخم بلغ خمسة اضعاف ما توقعه صانع القرار رغم رفع الدعم الذي تم تطبيقه في نفس العام.
ويؤكد الصندوق أنه يمكن لسوء ظروف الاقتصاد الكلي والافتقار إلى المؤسسات أن تساهم في إفشال محاولات التعويم كما حدث في دول كثيرة منها فنزويلا في بداية الالفية اذ ساهمت الهيمنة المالية وعدم الاستقرار السياسي وتنامي الضغوط التضخمية في فشل التعويم وأيضا في روسيا في بداية تسعينات القرن الماضي حين فشل التعويم لأسباب شبيهة.
وغالبا سيدخل السودان تاريخ أدبيات التنمية كحالة فريدة تم فيها الانتقال إلى نظام صرف أكثر مرونة في ظروف ضعف اقتصادي وسياسي شامل ولا اشك ان الصندوق وخبراء التنمية يتشوقون لرؤية ما ستنتهي عليه هذه التجربة الفريدة التي يتمدد فيها السودان كفأر تجارب (خنزير غينيا) لاختبار وصفة الانتقال في وضع متصدع ومترنح.
كان الهدف من عرض فقه الصندوق عن شروط الانتقال الناجح إلى سعر صرف أكثر مرونة هو تسليط الضوء على انه حتى لو تبنينا منطق الصندوق (وهو معقول ومناسب) في كيفية إدارة العملة الوطنية يظل الانتقال هو القرار الخطأ، في التوقيت الخطأ، للأسباب الخطأ، بالتسلسل المقلوب وفي ظل أوضاع اقتصاد كلي معاكسة تماما وهو ما وصفناه سابقا بوضع العربة أمام الحصان وإدخال راسه في عادمها.
بعد عرض فقه الصندوق النظري في شروط الانتقال الناجح نتناول في الفقرات أدناه بصورة تحليلية جوانب من السياسة الجديدة ومالاتها في سياق المتعين السوداني.
في طبيعة نظام الصرف الجديد:
في 21 فبراير 2021 أعلنت الحكومة الانتقال إلى نظام سعر صرف جديد – 375 جنيه للدولار – بدلا عن 55 جنيه، السعر الرسمي السابق. تضاربت الآراء وما زالت حول طبيعة النظام الجديد وهل هو تعويم حر، أم مرن مدار، أم شيء آخر، ولم تنحصر الحيرة على المعلقين، إذ إن الخطاب الرسمي أيضاً ظل مرتبكاً ومربكاً فيما يختص بالتصنيف الصحيح للنظام الجديد إما عن ضبابية تفكير صاحب القرار أو عن شيء في نفس يعقوب. ولا جديد في هذا الارتباك متعمدا كان أم غيره، فقد عهدناه في خطاب النظام السابق كلما أتى بسياسة جديدة، مثل ما حدث في نوفمبر 2016، وبعده وقبله من التواريخ.
تعريف التعويم الحر هو تحرير سعر الصرف وتركه لقوي العرض والطلب في السوق لتحدد مستواه من غير تدخل من قبل الحكومة في تحديد هذا السعر. ولا يتدخل البنك المركزي بأي شكل من الاشكال في سوق النقد إلا نادرا وبأدوات سوق تستهدف تأثيرا محدودا في سعر الصرف لا تحديد مستواه أو مساره وانما فقط للحد من إفراط تقلباته العابرة.
وفي نظام التعويم (المرن) المدار/الموجه يراقب ويتدخل البنك المركزي للتأثير على سعر الصرف بأدوات مختلفة مثل ضخ عملة اجنبية أو رفع سعر الفائدة لاحتواء أي علو أو هبوط غير مرغوب فيه في أسعار العملات الاجنبية. ولكن لا يأتي هذا التدخل لتحقيق مسار أو هدف محدد سلفا لسعر الصرف. نسارع هنا لملاحظة ان الحكومة السودانية لا تملك رصيد من احتياطي عملات اجنبية، أو أي أدوات اخري ذات مصداقية، للدفاع عن السعر أو تحقيق تأثير مستهدف، كما لا تملك أي حيز لاستعمال سياسة سعر الفائدة إضافة إلى انفصال السودان عن اسواق المال العالمية.
اذن يتضح ان النظام الجديد لا يمكن وسمه بالتعويم (الحر) ويصعب تصنيفه كتعويم (مرن) مدار لغياب كل أدوات الإدارة المطلوبة. فما هو اذن هذا النظام الجديد؟
حسب النظام الجديد المعلن يحدد البنك المركزي سعر تأشيري يوميًا ويتعين على البنوك ومكاتب الصرافة التداول في حدود أعلى أو أدني من هذا السعر بنسبة 5٪. كما حدد البنك المركزي هامش ربح بين أسعار الشراء والبيع لا يزيد عن 0.5٪. وبما أن السعر التأشيري الجديد 375 جنيهاً (تم رفعه إلى 378 بعد أسبوع)، يتراوح نطاق التداول القانوني بين 394 و356 جنيها للدولار، ويمكن للبنك لاحقاً أن يغير السعر التأشيري أو حدود النطاق.
هذا النظام المختار أقرب إلى سعر الصرف المربوط ضمن نطاق تقلب زاحف. يتحدد سعر العملة في هذا النظام ضمن هوامش (نطاق) للتقلب حول السعر المركزي. ومن الواضح ان البنك المركزي يحتفظ بحق تعديل السعر المركزي و/أو هوامش التقلب استجابة للتغيرات في المؤشرات الكمية للاقتصاد الكلي أو حسب طلب المانحين ومؤسساتهم.
وفي غياب أدوات فعالة للتدخل في السوق للتأثير على العرض والطلب للحفاظ على السعر في حدود النطاق المعلن (375 جنيه +/- 5%) بدلا عن الفرمانات الإدارية يكون النظام عمليا أقرب إلى التعويم إذا ما قرر البنك المركزي أولوية مطاردة السوق الأسود بتعديل السعر التأشيري باستمرار لمجاراة ذلك السوق المتمرس.
اما إذا عادت الحكومة إلى تثبيت سعرها التأشيري في مستوي دون سعر السوق الأسود المتغير دائما فان النظام الجديد يكون هو نفس نظام معتز موسي القديم ويكون كل ما حدث هو تخفيض السعر الرسمي من 55 جنيها إلى 375 جنيها وما بعدهما من الأسعار في إطار يهيمن فيه سعر السوق الأسود على السعر التأشيري. وفي هذه الحالة لا يتم توحيد أسعار الصرف ولا يحدث أي تغيير في هيمنة السوق الأسود ولا في طبيعة وديناميات سوق الصرف وتكون الأوضاع قد عادت إلى سياسة السعر التأشيري التي اتي بها النظام السابق وهزمها السوق الأسود في لمحة عين.
ولا جديد في نظام الصرف الجديد فهو إعادة اخراج لسياسات النظام السابق. ففي 18 يناير 2018 أصدر بنك السودان المركزي منشور إدارة السياسات رقم (5/2018) الذي جاء فيه " اعتبارا من يوم الأحد الموافق 21/يناير/2018 م، وفي إطار سياسة سعر الصرف المرن المدار، سيقوم بنك السودان المركزي باحتساب السعر التأشيري وذلك باستيعاب حافز استقطاب تحويلات السودانيين العاملين بالخارج وتشجيع الصادرات في السعر التأشيري والأسعار المعلنة للبيع والشراء بواسطة بنك السودان المركزي والمصارف وشركات الصرافة. ثالثاً: سيقوم بنك السودان المركزي بإعلان السعر التأشيري المحتسب والنطاقات حوله يومياً على موقع بنك السودان المركزي."
إذا كان هذا هو الحال فلماذا سوق الخطاب الحكومي النظام الجديد كتحرير في شكل تعويم أو تعويم مدار رغم انه أقرب إلى الربط ضمن نطاق تقلب؟ على كل حال نجح الصخب في التغطية على أعظم تخفيض سعر صرف في تاريخ السودان بنسبة 582 في المئة كما نجح الإخراج في ان لا ينتبه الرأي العام إلى ان النظام الجديد نفسه قد جربه النظام السابق في 2018 وتبني ملامح منه قبل ذلك في 2016 على سبيل المثال. وأيضا أتاح الاخراج للحكومة التظاهر بأحداث قطيعة مع فكر وممارسات النظام السابق وكأنها تبنت نهجا جديدا أكثر واقعية للإدارة الاقتصادية.
مرونة النظام الجديد والسوق الأسود للعملة:
يشدد الخطاب الحكومي ومؤيديه على ضرورة "تعويم" الجنيه بهدف القضاء على السوق الأسود للصرف وتوجيه تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية. ولكن في الحقيقة يتضح لأي متابع لمشهد التحويلات ان منافسة البنوك والصرافات لتجار السوق الأسود لن تكون نزهة في حديقة نسبة إلى التنافسية العالية التي يتمتع بها السوق الأسود والتي لا تقتصر فقط على استعداده لمنح سعر أعلى من سعر البنوك. إضافة إلى تدني تكلفة تشغيل شبكات السوق الأسود مقارنة بالبنوك، نلاحظ سهولة التحويل عبرها مقابل رسوم وتكاليف معاملة متدنية وسهولة في الأرسال والاستلام وكل هذه الميزات تشكل عوامل جذب من الصعب على البنوك مجاراتها.
تتجلى عقبات منافسة البنوك للسوق الأسود في ارتفاع تكلفة المعاملة عبر الأخيرة. تشير تقارير دولية إلى ارتفاع تكلفة ارسال التحويلات بالذات عبر البنوك. يعضض من هذا ما كشفت عنه تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عن ارتفاع تكاليف إرسال التحويلات إلى الدول الفقيرة التي تصل إلى 12 في المئة من المبلغ المحول، وهو ما يزيد بمقدار الثلث عن المتوسط العالمي. وعلى سبيل المثال في عام 2010 كان من الممكن أن تولد التحويلات المالية المرسلة إلى إفريقيا جنوب الصحراء 6 مليارات دولار إضافية للمستفيدين إذا كانت تكاليف تحويل الأموال مطابقة للمتوسط العالمي. ويؤكد البنك الدولي أيضا ان فوائد التحويلات في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط تقل بسبب التكلفة العالية عمومًا لإرسال الأموال، والتي تبلغ في المتوسط 7٪ عند تحويل مبلغ في حدود 200 دولار. والبنوك هي القناة الأكثر تكلفة لتحويل التحويلات، بنسبة 10.9٪. وفي أفريقيا جنوب الصحراء ترتفع تكلفة إرسال الأموال عن متوسط الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وهذه الحقائق لا تعني ان تكاليف التحويل عبر البنوك السودانية بالضرورة ستقارب النسب أعلاه ولكنها تشير إلى تكلفة ليست زهيدة بالذات إذا ما قارنا البنوك بشبكات السوق الأسود الي لا تحتاج إلى أكثر من شبكات ثقة بين أصدقاء أو أقارب أو شركاء يملكون هواتف ذكية، عكس البنوك التي تدفع مرتبات لجيوش من الموظفين وتستأجر مباني مكلفة وتدفع فواتير كهرباء وتشغيل ومعدات عمل وتدفع ضرائب.
أضف إلى ذلك ان التحويل عن طريق البنوك يستدعي ذهاب المرسل إلى بنك أو مؤسسة مالية في بلد الإقامة وإبراز أوراق هوية وغيرها من مستندات وكذلك على المستلم الذهاب الي البنك في السودان لاستلام التحويل وكلا المرسل والمستلم يهدر ساعات ومشقة وتكاليف ترحيل من والي البنك. وعلى المستلم التعامل مع موظفي بنوك محبطين وبعضهم يفتقد الذوق السليم في حين ان التحويل عن طريق السود الأسود لا يستدعي مثل ذلك المجهود اذ ان الترتيب للمعاملة يتم من خلال اتصالات تلفونية أو رسائل بعدها يستلم المرسل اليه التحويل في عقر داره وهذه ميزة هامة لكبار السن والاميين وسكان القري التي لا توجد بها بنوك ويترتب على ذلك ان التعامل عن طريق البنك يستدعي ان يسافر المستلم إلى أقرب مدينة ليعاني من تكاليف الترحيل وفي الصفوف واحتمال عدم الاستلام في نفس اليوم نظرا لمحدودية أوقات عمل البنك وغير ذلك من مشاكل البنوك التي عجزت في أمس قريب حتى عن توفير سيولة تتيح للمواطن سحب حر ماله من العملة المحلية. وتمتد المشكلة لتشمل حتى سكان المدن الصغيرة التي تتصف بنوكها بالهزال وضعف الموارد البشرية والمالية والاتصالية.
وفوق ذلك فان شبكات السوق الأسود توفر حماية من عيون حكومات مكان إقامة المرسل وعيون حكومة السودان وعيون رجال الضرائب وتعقيدات شبهات وبارانويا تمويل الإرهاب. كما ان شبكات السوق الأسود توفر خدمات طوارئ فعالة بما في ذلك قروض قصيرة الاجل في حال نمو علاقة تعامل وثقة اذ يتم تحويل المبلغ المطلوب في ساعات ويسدد المرسل لاحقا وربما في فترة سماح قد تمتد.
وكل ما ذكر أعلاه يشير إلى أنه رغم أن جزءاً من التحويلات سيتم إرساله عبر البنوك، إلا أن شبكات تجارة العملة خارج البنوك ستظل موجودة وقوية، لأنها توفر خدمات لن يوفرها البنك، ولأنها سهلة ومريحة، وتكاليفها أقل من كل جوانب المعاملة للمرسل والمستقبل.
وقبل الانتقال إلى نظام الصرف أعاد خطاب الحكومة أن من أهم فوائد إزالة السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية أن المغتربين السودانيين سيتمكنون من ارسال تحويلاتهم من العملات الصعبة عبر النظام المصرفي الرسمي، وهذا من شأنه أن يحل مشكلة ندرة النقد الأجنبي بما سيضمن توفير موارد كافية لاستيراد للسلع الأساسية التي نحتاجها سواءً ان كانت قمحا أو محروقات أو دواءً أو مدخلات انتاج.
لا شك أبداً أن حذف السودان من قائمة الإرهاب يعد تطوراً إيجابياً بالغ الأهمية، لكن حجة التحويلات خاطئة لعدة أسباب منها ان المغتربين السودانيين عبر السنين لم يواجهوا أي مشاكل تذكر في تحويل عملاتهم الصعبة إلى السودان. لطالما كان من السهل جدًا على أي شخص إرسال أي مبلغ من المال إلى السودان لأسباب اسرية أو لشراء شيء ما أو الاستثمار أو أي غرض آخر. ودائما كانت هناك وسائل فعالة وموثوقة للغاية لتحويل الأموال من خلال قنوات عائلية أو مع الأصدقاء أو عبر تجار العملة الذين حازوا على ثقة المرسلين الموجودين حول العالم. ولم يكن للعقوبات الأمريكية أي تأثير على قدرة السودانيين على إرسال الأموال إلى وطنهم.
لاحقا ركز الخطاب الحكومي على ان أحد اهم مشاكل الاقتصاد السوداني هو عدم مقدرة البنوك على جذب تحويلات المغتربين لذا وجب تعديل سعر الصرف حتى تستطيع البنوك اجتذاب التحويلات عبر لخدمة القطاع الرسمي. وقد صارت تميمة جذب التحويلات كهدف سامي – لا يقوم اصلاح اقتصادي بدونه – علكة في كل فم معلق عن احوال الاقتصاد ولكن كما ذكرنا أعلاه فإن السوق الأسود بعد التعديل سيظل دائماً حاضراً، ونضيف إلى ذلك أنه من وجهة نظر الاقتصاد الكلي لا يوجد فرق جوهري بين دخول تحويلات المغتربين عن طريق البنوك، أو عن طريق تجار السوق الأسود.
لإيضاح هذه النقطة بداية يجب ملاحظة أن جل تأثير تحويلات المغتربين على الاقتصاد ينسرب عبر ثلاث قنوات: حجم التحويلات وسعر صرفها وحزمة الواردات التي تمولها.
فيما يختص بالسعر فقد تم حسم الامر، فالتحويلات ستعامل في البنوك بسعر أقرب لسعر العرض والطلب أو ما يقارب سعر السوق الأسود/ السوق الموازي (أما إن أصرت الحكومة على فرض سعر صرف ينحرف عن سعر السوق بفرمان اداري فهذا يعني ان نظام الصرف القديم لم يتغير).
وكذلك في ظل النظام الجديد لن يتغير حجم التحويلات والسبب في ذلك بسيط جدا وهو ان أي مغترب في الماضي أراد أن يحول عملة اجنبية للسودان لم تقابله عقبة إطلاقاً، ولم يعانِ من غياب البنوك عن المشهد. أسهل الأمور كان وما زال هو تحويل أي مبلغ إلى داخل لسودان من أي مكان في العالم عبر شبكات السوق الأسود وهذا يعني ان دخول البنوك في المنافسة على التحويلات لن يزيد حجمها لأنه لا يوجد مغترب عجز عن التحويل سابقا ليغريه دخول البنوك في الملعب.
كل الذي يترتب على السماح للبنوك بالتعامل بسعر السوق الأسود هو دخول بعض التحويلات عن طريق البنوك بدلا عن السوق الأسود القديم ولكن يظل مجموع التحويلات على مستواه ومساره القديم، فما دخل عن طريق البنوك خرج من قنوات السوق الأسود ولو حدث أي تغير هام في حجم التحويلات فسيكون نتيجة لأسباب اخري لا علاقة لها بدخول البنوك في المنافسة عليها. في الماضي كان السوق الأسود يشتري تحويلات المغتربين ليبيعها للمستوردين بما في ذلك الحكومة. وبعد النظام الجديد ستقوم البنوك بنفس التوسط الذي كان يقوم به السوق الأسود بين المغتربين والمستوردين ولكن لن يترتب على ذلك تغيير ملموس في مسار الاقتصاد فيما يتعلق بالأسعار والإنتاج والعمالة.
لاحظ أنه إضافة إلى أن سعر الصرف التأشيري سيحدده ويراجعه بنك السودان فان الحكومة ستواصل السيطرة على كيفية تخصيص واستخدام كل المتوفر من العملات الأجنبية فيما يتعلق بمن يحصل عليها ولأي غرض وماهي السلع المسموح باستيرادها بها. وهذا يعني استمرار وجود طلب اخر على العملات الأجنبية لن تتم تلبيته عبر القنوات الرسمية سيظل السوق الأسود حاضرا لتلبية هذا الطلب. وتشير التجربة التاريخية الي أن الحكومة لن تستطيع القضاء على هذا السوق الاسود من خلال الإجراءات القانونية والأمنية لا سيما انه يتصف بالرشاقة وسرعة الحركة وحسن المتوقع كما ان جزءًا كبيرا منه يتواجد خارج السودان، في مدن الخليج والمهاجر المختلفة.
وكذلك لن تتغير كثيرا حزمة السلع التي تمولها التحويلات لان السوق الأسود سيظل موجودا وجاهزا لجذب نسبة منها لتمويل الواردات التي تمنع الحكومة البنوك من تمويلها- مثلا لأغراض استعمال العملة الأجنبية كمخزن للقيمة، وتهريب الاموال وتحويل الارباح والسفر والسياحة والعلاج بالخارج وتجارة الشنطة واستيراد سلع كمالية. وهذا يعني أيضا ان الحصة المتبقية لاستيراد السلع الأساسية لن تتغير عن مسارها بما ان مجموع التحويلات لم يتغير ولم يتغير نصيب الأنشطة الأخرى التي تمولها التحويلات عبر السوق الأسود.
وبما ان دخول البنوك إلى الملعب لن يغير حجم التحويلات ولن يخفض سعر العملات الأجنبية ولن يغير حزمة السلع والأغراض التي تمولها التحويلات بأي صورة معتبرة فان تأثير السياسة الجديدة على الاقتصاد الكلي سيكون محدودا في أكثر السيناريوهات تفاؤلا – ونعني بذلك محدودية تأثيرها على مستوى الأسعار، والإنتاج، والمداخيل، وخلق فرص العمل.
ولو كانت هذه النقطة عصية فلنضرب مثلا للإيضاح. تخيل الاقتصاد الوطني كأسرة كبيرة – وهو كذلك لدرجة ما. هذه الأسرة تستلم تحويلا شهريا بمبلغ 500 دولار من بنتها المقيمة في عرعر تبعثه عن طريق فدوني تاجر العملة. من ذلك المبلغ تدفع الأسرة 200 دولار إيجاراً وماءاً وكهرباءً، و200 دولار طعاماً ومواصلات، و100 دولار ترفيهاً وطوارئ. تخيل أنه بعد قرار بنك السودان إياه قررت البنت الاستغناء عن خدمات فدوني، وبدأت في إرسال مبلغ ال 500 دولار عن طريق بنك العبور.
لاحظ أن البنت ما زالت ترسل 500 دولار لأنها اختارت ذلك المبلغ سابقا لأسباب لا علاقة لها بطريقة إرساله إلى الخرطوم سواء عن طريق بنك أو مع مسافر أو تاجر عملة – فقد اختارت المبلغ بناء على عوامل مثل مستوي دخلها وعدد أطفالها وأهدافها الخاصة ودرجة كرمها وتقديرها لاحتياجات اهلها في السودان. وهكذا صارت الأسرة تستلم المبلغ من البنك بدلا عن فدوني تاجر العملة ولكنها ظلت توزعه على قنوات صرفها بنفس النسب أعلاه (200 دولار ايجار وماء وكهرباء و200 طعام ومواصلات و100 دولار ترفيه وطوارئ) لان بنية صرفها قامت على خيارات تعبر عن احتياجاتها وتفضيلاتها وذائقتها التي لا علاقة لها بطريقة وصول التحويل فالأسرة يهمها مبلغ التحويل لا من أتى به.
بعد أن تغيرت قناة توصيل التحويلات للأسرة لتاتي عبر البنوك هل تغير شيئا في اقتصاد الأسرة؟ بالطبع لا، فهي تستلم نفس المبلغ من البنك، بسعر السوق الأسود وتنفقه على احتياجاتها المختلفة بنفس النسب القديمة. والاقتصاد الوطني كذلك تقريبا.
من الواضح أن انتقال جزء من مال التحويلات للبنوك سيتيح لها فرص إضافية للاسترباح على حساب تاجر العملة التقليدي الذي قل نصيبه من كيكة التحويلات. ولكن انتقال بعضا من الربح من التاجر إلى البنك لا يعني الكثير من وجهة نظر الاقتصاد الكلي ولا للمواطن فيما يخص حياته التي تتأثر فقط بمستوى الأسعار وتوفر الواردات من سلع استهلاكية أو مدخلات إنتاج أو سلع رأسمالية.
أما القول بان "التعويم" سيحفز المغتربين على فتح حسابات بالعملة الصعبة في البنوك السودانية فذلك قد لا يحدث في نطاق واسع ومؤثر وبحسابات كبيرة بما الثقة في البنوك السودانية ضعيفة، ولم ينس الناس بعد ازمة السيولة، وكذلك الثقة في السياسة الحكومية ضعيفة مضافا اليها هشاشة الوضع السياسي والامني. ولا أدرى ما الذي يدفع انسان مقيم في السويد أو الامارات أو مصر – تتاح له بنوك اجنبية راسخة وموثوقة – لأن يحفظ مدخراته بالعملة الاجنبية في بنك سوداني. حتى لو فعل ذلك البعض القوم فإن أموال حساباتهم ستكون ضعيفة كقطرة في بحر الاقتصاد الكلي ولن تغير الكثير. وللتأكد من هذه النقطة وفحصها يمكن أن نسأل الوزراء وأعضاء مجلس السيادة وكبار موظفي الدولة القادمين من الخارج متى سيحولون مدخراتهم في الخارج إلى بنوك سودانية؟
يمكن القول بأن التحويل عبر البنوك يفيد بما أنها تدفع ضريبة، عكس تجار العملة، ولكن تحقيق هذا الأثر يستدعي مرور نسبة عالية من التحويلات عبر البنوك، ولكن نفس الضرائب تضعف من تنافسية البنوك النسبية تجاه السوق الأسود، وتفترض أن البنوك تدفع ضرائباً معتبرة، أضف إلى ذلك، أن حصة عالية من الجهاز المصرفي مملوكة لراس مال أجنبي نهم، يحول أرباحه إلى الخارج.
تراخي الأمل في تأثير إيجابي على مستوي الاقتصاد الكلي لا يعني نهاية سردية نظام الصرف الجديد. فمن ناحية اخري ربما برزت واشتعلت منافسة جديدة بين البنوك والسوق الأسود يترتب عليها ازدياد الطلب على التحويلات ينجم عنه تواصل ارتفاع سعر العملة الأجنبية مقابل الجنيه في سباق مسافات طويلة بين البنوك والسوق الأسود الذي تمرس وقوي عوده في عقود طويلة. وهذا السباق قد يصب بحارا من الزيت اليومي على نيران التضخم الشيء الذي يربك الحركة التجارية ويضعف النشاط الإنتاجي والاستثماري والتجاري في القطاعات التي تعجز عن التكيف اليومي السريع مع مستجدات سوق العملة وسعر الصرف المتغير دوما.
جراحة عميقة بلا تخدير:
عندما بشر وزير المالية السابق الدكتور البدوي بتعويم الجنيه في حزمة تشمل رفع الدعم وتحرير جميع الأسعار كمقدمة يتبعها المزيد من التحرير الاقتصادي كان يعرف كخبير محترف ومتمرس كم الألم الذي يمكن ان يحيق بالمجتمع جراء هذا التوجه لهذا السبب فقد سمي وصفته بالجراحة المؤلمة وبدأ الدعوة لها باشتراط تزامن تدفق مساعدات خارجية ضخمة لتحلية الدواء المر.
وكرر السيد الوزير قصة منسوبة إلى عالم اقتصاد معروف هو روديغر دورنبوش تقول بأنه في سياق مناقشة مصير البلدان التي طبقت برامج التكيف الهيكلي – التي وصفها السيد الوزير بأنها سيئة السمعة – تحت أشراف البنك الدولي وصندوق النقد، صنف روديغر البلدان إلى ثلاث مجموعات: تتكون المجموعة الأولى من البلدان التي حصلت على المساعدات الخارجية ولكنها لم تطبق برنامج التكييف بإخلاص، ووصفها بالبلدان التي بلعت المخدر ولكنها لم تجر الجراحة. أما المجموعة الثانية فتتكون من البلدان التي أجرت الجراحة الموجعة دون تخدير المساعدات الخارجية فعانت من صدمة وآلام. وأفضل الدول هي تلك التي حصلت على المساعدات الخارجية كمخدر وأجرت العملية الجراحية بنجاح.
الافتراض بأن الجراحة الاقتصادية النيو ليبرالية سوف تنقذ الاقتصاد إذا ما توفر لها الدعم الخارجي مشكوك في وجاهته ولكن ذلك موضوع نناقشه في سياق آخر. ما يهمنا في هذا المنعطف يتعلق بما توفر من بنج لازم لإجراء الجراحة.
ويتفق صندوق النقد مع رؤية السيد الوزير على أن أحد العناصر الأساسية لنجاح البرنامج المراقب من قبل الصندوق والمنفذ حاليا في السودان هو وصول التمويل الكافي من المانحين. ولكن حتى الان المساعدات التي استلمتها هذه الحكومة من المانحين لا تذكر ولا توجد ضمانات لتدفقها بالحجوم المليارية المطلوبة بالذات لأن كل الدول المانحة تعاني ظروفا مالية صعبة نجمت عن صدمة الكورونا لاقتصاداتها والتي فاقمت من ديونها ما يعني انها تحتاج لسنين طويلة للتخلص من الديون التي راكمتها لدعم مواطنيها وشركاتها بغرض مقاومة آثار الكورونا، في ظل تردٍ مفزع في إيراداتها. أضف إلى ذلك أن أعدقاء السودان اكتشفوا مقدرتهم على أن ينالوا من هذه الحكومة أعز ما تملك، وما شاءوا، بلا مقابل، وفي عالم الريال-بوليتك لا يدفع أحد الكثير للحصول على ما يمكن الحصول عليه مجاناً – حتى لو دفع فتات لزوم الدعاية والحفاظ على مظاهر من إنسانية.
ما يهمنا هنا هو أن الخطاب الحكومي قد دعا علناً إلى حقن الاقتصاد بالمخدر الأجنبي أولاً، ثم إجراء جراحته الموعودة بعد ذلك. لكن الأمور لم تسر كما اشتهى الجراحون فيما يتعلق بتأمين التخدير.
عندما بدأ السيد رئيس الوزراء عهده في أغسطس 2019، كانت أول خطواته كشف كعب أخيله لعالم الأعدقاء، عندما أعلن للمجتمع الدولي عن الحاجة إلى عشرة مليارات دولار من المساعدات الخارجية لإنقاذ الاقتصاد السوداني، تستخدم منها 8 مليارات لتغطية فاتورة الواردات، إضافة إلى ملياري دولار تضاف إلى ودائع الاحتياطيات الأجنبية، بهدف إيقاف نزيف الجنيه تجاه العملات الأجنبية.
وعقب ذلك في نوفمبر 2019، أعلن السيد وزير المالية أن السودان بحاجة إلى خمس مليارات دولار لدعم الموازنة، وتجنب الانهيار الاقتصادي، ولبدء الإصلاحات على أرضية ثابتة. وفي كلا الحالين، كان تغليف بيع الرسالة للمجتمع الدولي، التهديد الضمني بأنه إذا لم يدفع فستنهار الدولة، وسيسيطر الإرهابيون على أرض السودان، ويشنون منها هجمات بربرية على العالم المتحضر، وعلى مصالحه في الإقليم وحول العالم. وكان افتراض الرسالة هو أن من أرسلها قادر على بيع المية في حارة السقايين، وأن فزاعة الإرهابي الإسلامي يمكن استخدامها لتخويف الغرب، بنفس نجاعة استخدامها في خطاب الاستهلاك المحلي.
وعندما ذهب السيد الوزير إلى واشنطن على أمل تأسيس صندوق مساعدات بقيمة ملياري دولار لإجراء الجراحة عاد خالي الوفاض. وحين جاء دور رئيس الوزراء لزيارة واشنطن لإحضار البورك الأمريكي، إذا جاز التعبير، عاد أيضا خالي الوفاض ومثقلا بقبوله بدفع مئات الملايين من الدولارات كتعويضات عن تهم مسيسة منسوبة إلى النظام السابق تلعب فيها أمريكا دور الخصم والحكم.
إضافة إلى مأساة شح المانحين التي حذر وتنبأ بها الكثير منا وخطر وضع كل بيض الثورة في سلة الأجنبي، التقى منتدى شركاء/أصدقاء/مانحي السودان عدة مرات في الخرطوم والرياض وبرلين ولم تنساب منهم قطرة مساعدات.
وعقب ذلك ظل المانحون على موقفهم رغم انصياع الحكومة للخارج بدفع التعويضات والتطبيع ورفع الدعم والمشاركة في حروب خارجية. وفي أيام مفاوضات التطبيع ساومت الحكومة أولا على ست مليارات دولار كثمن مقابل التطبيع ثم خفضته لاحقا إلى مليارين ولكنها في آخر المطاف طَبًعَت بلا مقابل وبعد التطبيع تقلص طموحها إلى الحصول 750 مليون دولار من الدول التي دفعتها دفعا للتطبيع ولكن لم تحصل على فلس منهم حتى يوم إعلان نظام الصرف الجديد في الأسبوع الأخير من فبراير 2021.
عودة إلى تصنيفات رودي دورنبوش . قد يميل البعض إلى الاعتقاد بأن الفشل في توفير التخدير من شأنه أن يقنع الحكومة بإلغاء فكرة الجراحة، أو على الأقل تأجيلها، أو تغيير بعض تفاصيلها أو توسيع المدى الزمني لإنزالها بما أنه بدون تخدير قد ينتهي الجراح بقتل المريض. لكن لم يحدث شيئا مثل ذلك فقد تمت جراحة سعر الصرف من غير بنج وسبقه تحرير أسعار سلع أساسية ورفع الدعم عن البنزين والمحروقات الأخرى.
وكل هذا السرد لا يعني أن قرار "التعويم" كان سيكون سليماً في حالة حصول الحكومة على عشر مليارات دولار من المانحين الفسلين. فكما بينا فإن وجود احتياطٍ كافٍ ومستدام هو شرط واحد فقط من ضمن حزمة شروط أكبر للانتقال الناجح لنظام صرف أكثر مرونة. أضف إلى ذلك أن أدبيات الصندوق تقول بأنه لا فضل لنظام سعر صرف على آخر، وأنه من الممكن اختيار نظم تختلف من بلد لآخر، حسب ظروفها الخاصة، ولكن في كل الأحوال، تكتسب طبيعة سياسات الاقتصاد الكلي الداعمة أهمية خاصة وحرجة.
التعويم على إيقاع مصري:
كثيرا ما يتم استدعاء التجربة المصرية لتسويق التعويم في السودان رغم ما في ذلك من فساد منطق وتخليط يقفز فوق الاختلافات الجوهرية بين الاقتصادين. فمصر تتمتع بمؤسسات راسخة ودولة قوية ومتجذرة مقارنة بالسودان ولم تعاني المحروسة ولا من كسر من معدلات التضخم التي شهدها السودان في العقود الثلاثة الأخيرة ففي الفترة الزمنية التي ارتفع فيها سعر الصرف في مصر إلى حوالي ستة عشر جنيها للدولار قفز سعر الدولار في السودان من نحو ثلث الجنيه (أربعين قرشا تقريبا) في أواخر السبعينات إلى حوالي 400 ألف جنيه في الوقت الراهن.
نجحت تجربة التعويم نسبيا في مصر لأن اقتصادها المتنوع نسبيا يتمتع بإيرادات موازنة ضخمة ومعدلات تضخم أدنى ومصادر كبيرة ومتنوعة للعملات الاجنبية مثل الصادرات الزراعية والصناعية والغاز والبترول ومداخيل قناة السويس والسياحة وتحويلات مغتربين عملاقة وسوق مال ناجح نسبيا وأهمية جيواستراتيجية تجيد الدولة في ترجمتها إلى مكاسب اقتصادية.
إضافة إلى ذلك حصلت مصر على أكثر من 25 مليار دولار هدية من السعودية والإمارات، وأكثر من 12 مليار دولار من صندوق النقد عند التعويم، وحصلت على دعم إضافي بعد ذلك. ورغم نجاح التعويم فنياً، واستقرار سعر الصرف لاحقاً، إلا أنه بعد تطبيقه مع الحزمة إياها، تفاقمت تكاليف المعيشة مع ارتفاع الأسعار، وازدادت الضرائب، وتنامي الدين الحكومي الخارجي وارتفع معدل الفقر.
ولك أن تقارن جراحة الانتقال المجاني الذي نفذته حكومة السودان بدون تخدير بحصول مصر في عام 2016 على 37 مليار دولار من السعودية والأمارات والصندوق وحصول الارجنتين في سبتمبر 2018 على قرض من الصندوق بلغ 57 مليار دولار مقابل التزامها بوصفته التي تركبت من تحرير سعر الصرف والالتزام بعجز صفري في الموازنة يتم تحقيقه عن طريق تقليل الصرف الحكومي على الخدمات والدعم والتوظيف إضافة إلى زيادة الضرائب.
أخطار "تعويم" المعوم:
يمكن القول إن الجنيه السوداني كان معوماً إلى حد كبير قبل قرار 21 فبراير 2021 فقد اتخذت الحكومة نهجًا تدريجيًا بالتعويم على مراحل لتجنب رد فعل شعبي قد يأتي عنيفا. تم "تعويم" الجنيه عمليا مع برنامج محفظة السلع الاستراتيجية بالإضافة إلى السماح للبنوك التجارية بشراء تحويلات المغتربين بسعر يقارب سعر السوق الأسود.
ذكر نعوم تشومسكي التدرج ضمن استراتيجيات التحكم في الشعوب كوسيلة لتمرير سياسات تفتقد السند الشعبي على دفعات. طبقت الحكومة السودانية إستراتيجية التدريج حرفيا لتنفيذ عدد من السياسات التي تفتقد القبول الشعبي مثل التطبيع ورفع الدعم السلعي وأخيرا نظام الصرف الجديد.
كما تبدو الأمور، فإن السعر الرسمي القديم غير الواقعي ليس أكثر من مجرد رقم محاسبي يستخدم في دفاتر الحكومة لتحويل المساعدات الأجنبية إلى ما يعادلها بالعملة المحلية وهذا من ضمن ما زاد من إصرار الجهات المانحة على تغيير نظام الصرف حتى تنتفخ القيمة المحلية لمساعداتهم المستقبلية.
ولكن رغم ذلك يظل قرار "تعويم" المعوم على أهمية وازنة تلقي بظلالها عبر قناتين رئيسيتين، من بين أمور أخرى.
أولا الدخول المقنن للبنوك التجارية، الأجنبية والوطنية، في سوق الصرف الأجنبي المحرر قد يخلق طلبًا إضافيًا لتمويل العديد من الأنشطة، بما في ذلك الاستيراد وتهريب رأس المال الوطني وتحويل الأرباح المتراكمة للشركات والبنوك الأجنبية.
القضية الرئيسية الأخرى لتحرير سوق الصرف الذي يترتب عليه السماح قانونا بالاحتفاظ بالعملة الأجنبية والتعامل فيها تتعلق بتكوين التوقعات أحادية الاتجاه. نظرًا لاستمرار الهيمنة المالية ونقدنة العجوز المتسعة، سوف يتوقع جميع المشاركين في السوق أن يتحرك سعر الصرف في اتجاه واحد فقط. أي كائن راشد عقلاني يتوقع انخفاض قيمة الجنيه سيبيع ما لديه من عملة أجنبية فقط في حدود صارمة لتمويل الاحتياجات الانية أو ما يكفي لمصاريف بضعة أيام. بمعنى آخر، سوف يخزن الزول دولاراته (أو أي عملة أخرى).
من ناحية أخرى، نظرًا لأنه من المتوقع أن يتحرك سعر الصرف في اتجاه واحد فقط، فإن كل مواطن لديه مبلغ ما سوف يندفع لشراء دولارات أو ريالات كمخزن للقيمة يحمي مدخراته من تغول ضريبة التضخم رب رب. كل هذا يعني أن المعروض من العملات الأجنبية في السوق قد ينكمش نسبيا (مقارنة بالعرض المحتمل في سيناريو اخر) بينما سيزداد الطلب. وقد يرتب على ذلك ضغطًا إضافيا على سعر الصرف يؤدي إلى انخفاض متواصل في قيمة الجنيه.
وفي حال تفاقم التضخم الناجم عن التمويل العجزي وسقوط سعر الصرف قد يتلاشى ما تبقي من ثقة في العملة الوطنية مع فقدانها الأهلية اللازمة لتخدم كمخزن للقيمة ووسيط للتبادل ووحدة للمحاسبة. وقد يترتب على ذلك بروز اقتصادين أحدهما مدولر تلعب فيه الشركات وشريحة ضيقة من البرجوازية التي تتمتع بمداخيل بعملات أجنبية من العمل أو التحويلات أو الحسابات الشحيمة في الخارج في مقابل غالبية الشعب المجبر على عملة وطنية لا تساوي شيئا. وهذه الاوضاع سوف تفاقم الاحتقان الاجتماعي وستدفع بأعداد متزايدة من الطبقة الوسطي، بما في ذلك شرائحها العليا، إلى التحالف مرة أخري مع الطبقات الدنيا لمواجهة السقوط الطبقي والحرمان المهين. وانضمام الطبقة الوسطي في تحالف مع المسحوقين هو أحد أهم علامات ثورة قادمة قد تكون مستنيرة وقد تكون عمياء الغضب تحرق بلا بصيرة. من نافلة القول ان هذا المسار وهذه الاليات لن تحدث بين يوم وليلة ولكنها ستواصل الاختمار ما لم يتم تصحيح السياسة الاقتصادية إلى أن تأتي لحظة الانفجار العظيم في مستقبل قد لا يكون بعيداً.
ولنا في التاريخ عبر لمن يعتبر تتجلي في ارتباط سعر الصرف والغلاء بسقوط نظامي البشير ونميري. فمثلا عزت أهم مراكز الصحافة العالمية مثل النيويورك تايمز وال بي بي سي سقوط النظامين إلى تخفيض قيمة العملة وتفاقم تكلفة المعيشة. في 7 أبريل 1985 غطت صحيفة النيويورك تايمز سقوط نظام نميري وقالت عنه: "في وقت سابق من هذا العام، بدأ السيد نميري بفرض برنامج تقشف أوصت به واشنطن وصندوق النقد الدولي. وشمل ذلك انخفاضًا كبيرًا في قيمة الجنيه السوداني وزيادات حادة في أسعار السلع الأساسية، مثل البنزين والخبز والصابون والزيت. وأثارت زيادات الأسعار، بالإضافة إلى الشح، احتجاجات وأعمال شغب الأسبوع الماضي حاولت الشرطة قمعها باعتقالات واسعة وهجمات بالغاز المسيل للدموع. "
وفي 15 أبريل 2019 غطت ال بي بي سي سقوط البشير في مقال موسوم " انقلاب السودان: لماذا تمت الإطاحة بعمر البشير؟:كيف بدأ كل شيء؟ " وقالت "في ديسمبر 2018، حاولت الحكومة تجنب الانهيار الاقتصادي الناجم عن سنوات من العقوبات الأمريكية وفقدان عائدات النفط من خلال فرض تدابير تقشف طارئة وتخفيض حاد في قيمة العملة. وأثار خفض دعم الخبز والوقود مظاهرات في الشرق بشأن ظروف المعيشة، لكن سرعان ما امتد الغضب إلى العاصمة الخرطوم."
في الواقع أن كل من تابع الأوضاع السياسية يعلم أن نظام الإنقاذ حاول جاهدًا مرارا وتكرارا رفع الدعم وتعويم سعر الصرف، لكن المقاومة الشعبية الشرسة – حتى انتفاضة سبتمبر 2013 التي رفضت هذه السياسات واستشهد فيها المئات – أجبرت النظام على التراجع مرة بعد أخري. وتقريبا جميع قادة وأحزاب ونقابات قوى الحرية والتغيير عارضت حينها محاولات النظام لتنفيذ هذه السياسات. إن تصوير سياسات رفع الدعم و"تعويم "سعر الصرف كقطيعة مع سياسات النظام القديم مناورة لا تسندها حقائق وتهدف باسم الثورة لتطبيق سياسات النظام القديم المفضلة التي لم يملك ما يكفي من السند الشعبي ورأس المال السياسي لتمريرها. وربما أمكن الادعاء مجازا في ميتافيزيقية هيغلية تاريخية بأن عقل النيو ليبرالية الكلي لما رأي افلاس الإسلاميين عن تقديم القرابين في معبد توافق واشنطن قرر استبدالهم بصفوة تصلي غرباً حظها في السند الشعبي أوفر لغموض معدنها أولاً ولأنها حابت الشعب في صراعه مع الفاشية الاخوانية ثانيا ولان الشعب أصابه من الإحباط والاكتئاب ما يكفي لشل مقاومته مؤقتاً، ومؤقتاً فقط.
حضور قوي للصين وفيتنام وغياب بوليفيا اوزبكستان:
ومن أغرب الأكروبات التي استخدمها دعاة التعويم ورفع الدعم هو استدعاء التجربة الصينية والفيتنامية لتحليل التعامل مع البنك الدولي والصندوق. تبدو هذه الغرابة من أن كلاً من الدولتين تصف نفسها بأنها اشتراكية ويتربع على حكومتيها حزبان شيوعيان وقامت النهضة الاقتصادية فيهما بقيادة دولة كثيفة التدخل في الاقتصاد بالشركات الحكومية الكبرى والتوجيه اللصيق للقطاع الخاص والسيطرة على نشاط راس المال الأجنبي وتوجيهه وهذا هو عكس ما يدعو اليه البنك والصندوق من ترك التنمية ليقودها القطاع الخاص وانسحاب الدولة من فضاء الاقتصاد إلا في حدود مساعدة القطاع الخاص وخصخصة الشركات الحكومية. كما أن الخطاب يختزل التعامل مع المؤسستين في قضيتي الدعم والتعويم رغم ان تعاون الدولتين معهما ركز على تطوير البنى التحتية والقدرات الإنتاجية، بشروط الدولتين، وداخل إطار خططهما التنموية المستقلة.
ولم يكن هناك أصلاً مشكل سعر صرف في الصين، لأنها لم تعوم سعر الصرف، بل اختارت أن تبقي العملة الوطنية في مستوى أقل من سعر السوق الحر، لزيادة صادراتها، وتقوية القطاع الوطني المنتج لبدائل الواردات، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح.
ولكن لا يمكن القول بأن تخفيض سعر الصرف في السودان سينعش الصادرات لأسباب عديدة منها ضعف المرونة السعرية للصادرات والواردات كما أن ضعف البنية التحتية وتآكل القاعدة الإنتاجية يجعل من الصعب على المستثمرين الاستجابة لتحسن سعر الصادر بزيادة الإنتاج في قطاعي الصادر والسلع البديلة للواردات. وقبل ذلك وعلى كل حال فأن مستوي الصادرات والواردات لا يعتمد على سعر الصرف الاسمي بل على سعر الصرف الحقيقي – أي سعر السوق/البنك مقارنة مع معدل التضخم النسبي بين السودان مقابل معدلاته في بلدان المنافسين والشركاء التجاريين. وهذا يعني ان تنافسية قطاعي انتاج الصادر والسلع البديلة للواردات تتحسن فقط في حال بناء القدرات الإنتاجية مصحوبة بمعدل تضخم أقل من معدل انخفاض سعر صرف العملة الوطنية – مع الأخذ في الاعتبار معدل التضخم في بلدان المنافسين والشركاء التجاريين. وهكذا فان تحسين تنافسية الصادرات والسلع المنتجة محلياً كبدائل للواردات يتم أولا بالسيطرة على التضخم وأن تخفيض قيمة الجنيه في سياق تضخم انفجاري سوف يضعف التنافسية الدولية للاقتصاد السوداني بدلا عن تحسينها. ولهذا كررنا وما زلنا بأن أي محاولة اصلاح اقتصادي لا تبدأ بالسيطرة على التضخم لا تعدو ان تكون اهدار زمن ثمين بالحرث في بحر الوهم وهذا ما حدا بنا لوصف قرار زيادة المرتبات بنسبة 569 في المئة بأنه من الكبائر لاستحالة تمويله بغير زيادة ساعات عمل مطابع العملة السرطانية.
جادل ها-جون تشانغ (استاذ الاقتصاد بجامعة كامبردج واحد المع المفكرين الاقتصاديين) انه على عكس مبادئ النيو ليبرالية ارتكزت النهضة الفيتنامية على تدخل الدولة وقيادتها للتحول الاقتصاد وخير مثال على هذا النهج هو صناعة السفن والتي رغم من انها لم تكن موجودة في عام 2002، الا ان فيتنام أصبحت بحلول عام 2014 تحتل المركز السابع على مستوي العالم في صناعة السفن. ووضعت فيتنام خطة مفصلة لتطوير الصناعة، بما في ذلك إنشاء مؤسسة مملوكة للدولة، وتقديم قروض مدعومة، وحوافز للشركات لإعادة الاستثمار، وإعفاء ضرائب التصدير وإيجار الأراضي. وركزت حكومة فيتنام أيضا على زيادة المحتوى المحلي للصناعات، وتوفير القروض لتكاليف البنية التحتية. يُظهر هذا سياسة صناعية قصدية ومدروسة لإحداث التغيير، وربط الدولة بالقطاع الخاص وتوجيهه وتعزيز الروابط الخلفية والأمامية التي يمكن أن تقود الصناعة للمساهمة في تعزيز الاستثمار المحلي والعمالة والإنتاج في عملية تحول شاملة.
ولا يحتاج إدراك فساد المنطق إلى معرفة لصيقة بالصين وفيتنام لأن من أتى به يرتكب خطيئة ابستمولوجية لا تجوز بخلطه بين الارتباط والسببية. فوقوع حدث بالتزامن مع آخر لا يثبت أن أحدهما سبباً والآخر نتيجة. ولو جاز استنتاج سببية متسرعة من تجربة الصين وفيتنام فإن نجاعة وصفة البنك ليست الاستنتاج الوحيد المعقول. فمن الممكن مثلا، بمنطق الارتباط الذي لا نتبناه، الاستنتاج بأن قيادة حزب شيوعي للتنمية هو شرط نجاحها أو أن قيادة الدولة لها حظها اوفر في النجاح أو علي الأقل أن الحكومات الشيوعية أقدر على التفاوض مع البنك بما يخدم قضايا التنمية. ليس الغرض هنا القفز الي أي من هذه الاستنتاجات بتعجل بل الهدف هو إبراز أن سلامة روشتة البنك ليست الاستنتاج الوحيد الجائز ولا حتى الأكثر منطقية من استنتاجات بديلة متاحة لا نود ان نخوض فيها هنا باتفاق أو اختلاف.
وبدلا من الدفاع عن السياسة الاقتصادية بالاستشهاد بدولتين تعلنان عن اشتراكيتهما تحت حكم حزبين شيوعيين وفي سياق تنمية قادتها وما زالت تقودها دولة طويلة الذراع للتدخل الاقتصادي كان من الأنسب والأكثر واقعية استصحاب نتائج تجربة السودان مع الصندوق منذ سبعينات القرن الماضي ونتائج التطبيق المستمر لسلسلة متناسلة لا تنقطع من نفس البرامج التي يراقبها الصندوق في ربع القرن السابق منذ 1997 بلغت أربعة عشر برنامجاً. كما كان من الممكن استصحاب نتائج برامج الصندوق في دول أفريقيا جنوب الصحراء – لأنها أقرب لواقع السودان في البنية الاقتصادية وطبيعة المشاكل.
وبدلا عن الاستشهاد بتجربة السودان وتجارب دول افريقية شبيهة يتم استدعاء تجارب دول تسمي نفسها اشتراكية وتحكمها أحزاب شيوعية تسيطر على مقابض الاقتصاد والسياسة، بما في ذلك سيطرتها على الشركات الخاصة الخاضعة لتوجيه الدولة.
ولو كان هناك درس لازم من تجارب الصين وفيتنام، فهو لا يتعلق بمحاسن النيو ليبرالية، إذ أن دليله يشير إلى ضرورة قيادة الدولة للتحول الاقتصادي، وأن يلعب القطاع الخاص دوراً مكملاً، في إطار سياسة الدولة، وبإشرافها، في إطار سياسة صناعية، جيدة التصميم، والانتباه للأهمية الحاسمة لصيانة السيادة الوطنية، واستقلال القرار الوطني، والاقتصادي، والاستثمار في التعليم، والبنى التحية المادية والتكنولوجية.
نجاح بوليفيا وأوزبكستان يثير الحيرة:
وصف ها-جون شانغ أيضاً سياسة أوزبكستان الصناعية، كدليل على أن الدول التي رفضت الدوران في فلكي البنك الدولي وصندوق النقد كانت الاوفر حظا في تحقيق التنمية الاقتصادية. فمنذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في عام 1989، أصبحت أوزبكستان معروفة بسياساتها الاقتصادية غير التقليدية، على عكس دول الكتلة السوفيتية السابقة.
في وقت مبكر في التسعينيات من القرن الماضي، تدخل صندوق النقد الدولي لتقديم توصياته المعروفة لأوزبكستان مثل التحرير السريع للأسواق والأسعار، والانفتاح على التجارة الخارجية والاعتماد على التمويل الخارجي والخصخصة، وتحرير الاقتصاد من سيطرة الدولة، وتشديد سياسات المالية العامة والسياسات النقدية.
ولكن بقيادة إسلام كريموف رفضت أوزبكستان هذه التوصيات، واختارت التحول التدريجي لاقتصادها. وانتقد إسلام كريموف علناً سياسات النيو ليبرالية، وقال إن نموذج الإصلاح والتحديث المقترح من الصندوق يعني منذ البداية إعادة أساليب الصدمة والتي فرضت باستمرار على بلده، وكذلك الارتهان إلى المفاهيم الساذجة والمضللة حول طبيعة اقتصاد السوق.
أدى هذا التوجه الاقتصادي إلى وابل من الانتقادات من المؤسسات المالية الدولية ومن مروجي الفكر الاقتصادي السائد الذين بشروا بالفشل الوشيك لأوزبكستان. وفي عام 2001 سحب صندوق النقد الدولي ممثله الدائم في البلاد بعد فشلها في الوفاء بالتزاماتها كعضو في الصندوق. وفي أبريل 2004 أوقف البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية مساعداته نتيجة لعدم تنفيذ إصلاحات تتماشي مع اقتصاد السوق.
على الرغم من مخالفة شروط المؤسسات الدولية وعلى الرغم من حقيقة أن أوزبكستان بلد غير ساحلي بالضعف (لا بحر له ومحاط بدول لا بحر لها)، فقد كان أداء البلد الاقتصادي جيدًا في فترة ما بعد الصندوق. بحلول عام 2001 صارت أوزبكستان الدولة لأولى من بين الجمهوريات السوفيتية السابقة التي استعادت التوازن الاقتصادي. واستمر معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط عند حوالي 4 في المئة في أوائل القرن، ثم تسارع إلى أكثر من 7 في المئة بحلول2004 وتجاوز 9 في المئة في عامي 2007 و2008. معظم النمو السريع منذ عام 2001 أتي على ظهر القطاع الصناعي وازدهرت صناعة السيارات وتعززت رفاهية الشعب. المؤسسات المالية الدولية ومروجو الفكر الاقتصادي السائد الذين بشروا بفشل أوزبكستان، عز عليهم مراجعة وصفاتهم، واكتفوا بوصف نجاح أوزبكستان بأنه أمر يثير الحيرة.
أما في بوليفيا فقد صعد حزب الحركة الاشتراكية بقيادة إيفو موراليس إلى الحكم في 2006 إلى 2019 وحقق إنجازات مشهودة ومذهلة. يقول مارك شنايدر من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي "ليس هناك شك في نجاح النظام في رفع مستوى معيشة الفقراء، وفي بوليفيا يعني ذلك مجتمع السكان الأصليين".
كذلك أقر البنك الدولي وصندوق النقد بالقفزات الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها بوليفيا تحت قيادة موراليس حيث حققت أدني نسبة بطالة في أمريكا الجنوبية (اقل من 4 في المئة) وأعلى نمو اقتصادي حيث نما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بمتوسط 4.8٪ سنويًا من 2004 إلى 2017، بينما انخفضت نسبة المواطنين الذين يعيشون في فقر مدقع بأكثر من النصف – من 36٪ إلى 17٪ خلال تلك الفترة. وتم رفع الحد الأدنى للأجور من 60 دولار إلى 310 دولار في الشهر. وارتفع متوسط العمر المتوقع بنسبة 9 سنوات وكادت الأمية أن تختفي وانخفض معدل التسرب المدرسي ومعدل وفيات الرضع ووفرت الدولة رعاية صحية مجانية لمرضى السرطان.
وتم تقليص الفجوة بين الجنسين بتمليك الأراضي للنساء وتقدمت بوليفيا في نسبة مشاركة للمرأة في البرلمان. وحسب الأمم المتحدة فان النساء يشغلن 53 في المئة من مقاعد البرلمان في الدولة متعددة القوميات، وهي ثالث أعلى نسبة على مستوى العالم. وأصبحت أدريانا سالفاتيرا رابع امرأة يتم انتخابها كرئيسة لمجلس الشيوخ في 2019. وتعتبر الشابة التي بالكاد تعدت الثلاثين ربيعًا أصغر شخص يشغل هذا المنصب في أمريكا اللاتينية.
ونسب ايفو موراليس في خطابه للأمم المتحدة هذه الإنجازات التي تحققت في وقت قصير إلى ضمير الشعب، والحركات الاجتماعية، من السكان الأصليين والفلاحين والعمال والمهنيين، من الرجال والنساء، في الريف والمدن وأيضا تحققت هذه الإنجازات بفضل تأميم الموارد الطبيعية والشركات الاستراتيجية والسيطرة على المصير الوطني وبناء نموذج اجتماعي اشتراكي منتج، يعترف بالخدمات الأساسية (الماء والكهرباء والمواصلات) كحق من حقوق الإنسان.
ولكن في نهايات 2019 تغول العسكر بشبه انقلاب وتم ابعاد موراليس ولكن في نهاية عام 2020 اعادت الانتخابات حزب الحركة الاشتراكية للحكم هذه المرة بقيادة الرئيس الجديد لويس آرس الشيء الذي أتاح لموراليس العودة من منفاه.
بعد عودته إلى الحكم قرر حزب الحركة الاشتراكية في فبراير 2021إعادة قرض حصلت عليه الحكومة السابقة بقيمة 350 مليون دولار إلى صندوق النقد الدولي. وقال البنك المركزي إنه أعاد قرضا قيمته نحو 346.7 مليون دولار بما في ذلك 4.7 مليون دولار من الفوائد والعمولات لتفادي إرهاق اقتصادها بالديون والتكاليف دون داع. وقال البنك أيضا إنه سيبدأ إجراءات إدارية ومدنية وجنائية ضد المسؤولين عن التفاوض على القرض مع صندوق النقد الدولي.
خلاصة القول إن القضية لا تنتهي عند الثنائية الصفرية بين التعامل مع صندوق النقد الدولي أو مقاطعته، فذلك من التبسيط والتسطيح. وعلى الذين يتحججون بان معظم دول العالم، إن لم يكن جميعها، تتعامل أو تعاملت مع صندوق النقد والبنك الدولي ان لا ينسوا أن السؤال المحوري يتعلق بشروط التعامل وسلامة منطقه وهل يأتي منطلقا من رؤية تنموية وطنية مستقلة ام يأتي عن طريق تحويل صانع القرار السوداني إلى مترجم تابع لما يقرره الخارج لأمبدة التي يفترض أنه أدري بشعابها.
أيضا من المعروف في أدبيات الاقتصاد الجادة، بما في ذلك توماس بيكيتي في كتابه الرائع راس المال في القرن الواحد وعشرين، ان كل تجارب التنمية الناجحة في آسيا اعتمدت على رأس المال المحلي، وليس على رأس المال الأجنبي ولا الهبات. وهكذا نمت الصين وكوريا واليابان وتايوان بالتركيز على رأس المال المحلي بما في ذلك الاستثمار في رأس المال البشري والتعليم والتكنولوجيا والتدريب واكتساب المهارات، وما إلى ذلك. وما زالت الصين تفرض قيودًا شديدة على رأس المال الأجنبي.
ولك ان تقارن ذلك بأفريقيا التي تعتمد على رأس المال الأجنبي. فتح الدول الافريقية الأبواب لراس المال الأجنبي تنفيذا لشروط البنك والصندوق نتج عنه ان الاجانب يملكون ما يقارب 40 في المئة إلى نصف راس المال الصناعي في القارة ويترتب على ذلك ان الدخل الذي يجنيه المستثمرون الأجانب ويحولونه إلى الخارج يبلغ ثلاثة أضعاف المساعدات التي تحصل عليها القارة. هل هذا هو طريق التنمية الذي يناسبنا ونتمنى ان نسير عليه؟
تحوط خطاب التعويم
عد ان القت الحكومة قنبلة مقاربة "التعويم" أصاب الداعون اليه بلا كلل أو ملل رعب احتمال الفشل العمودي فهبوا إلى التحفظ على المولود تحوطا ورفعوا درع أهمية استيفاء شروط مسبقة لنجاح التعويم أو على الأقل شروط يتم تطبيقها بالتزامن معه. وهذا القول صحيح ولكن ذهل الخطاب الحكومي واربابه عن واجبهم بالتنبيه لأهمية استيفاء هذه الشروط ولم يذكروا كلمة واحدة عنها أثناء حملة التسويق للتعويم كما كان واجبا اضافة إلى ذهول الخطاب حتى الان، بما في ذلك الصندوق، عن اثبات أو حتى مناقشة إمكانية استيفاء هذه الشروط فورا وبالتزامن مع التعويم او في فترة قصيرة وعلى يد هذه الحكومة ذات الكفاءة المعروفة وفي سياق هذه الهشاشة الشاملة والتوازنات السياسية-الاقتصادية الحرجة.
وليس في الأمر جديد. فقد تولى صندوق النقد زمام إدارة سياسات الاقتصاد الكلي في نهاية سبعينات القرن الماضي حين تم تطبيق الوصفة التي ساهمت في اسقاط نظام النميري كما طبق نظام الإنقاذ أكثر من عشر من نفس البرامج التي يراقبها الصندوق منذ 1997 وإلى يوم سقوطه وكان الافتراض الضمني والصريح أحياناً أن تحسين التطبيق والإخلاص فيه سيأتي بنتائج مختلفة.
وهذا يعني أن التبرير جاهز في حالة فشل التعويم، وهو أن الفكرة صحيحة، لكن لم تطبق بشكل سليم، بعدم استيفاء شروط نجاحها، والحل هو التطبيق الصحيح لجرعة أعلي من نفس الوصفة في الجولة القادمة من التاريخ الدائري للاقتصاد السوداني، ليدخل الشعب نفس المسلخ مرة أخرى.
كثيرًا ما شبه مفكرون الأيديولوجية النيو ليبرالية بالأصولية الدينية، فكلاهما يجنح للتبسيط المخل الذي يناسب الكسل الذهني وكلاهما يعملان كمعتقدات دينية دوغمائية لا تأبه ببراهين أو أدلة أو حقائق أو منطق. إذ لا يقوم المؤمنون بالنيو ليبرالية والأصولية الدينية أبدًا بمراجعة أو إعادة النظر في موقفهم استنادًا على الأدلة ونتائج التطبيق أو الحقائق التجريبية فديدنهم تجريب المجرب بوتيرة راتبة والتسويق بان النتيجة سوف تأتي مختلفة كل مرة وهذا ضرب من الجنون في ميزان آينشتاين.
ما العمل؟
حين جادلنا صانع القرار الحكومي في قضايا سياسات سعر الصرف كثيرا ما سأل المعلقون ما العمل؟ ما هو الحل؟ وهذا سؤال مشروع ومفهوم وهام يأتي صادقا مرات وأحيانا يأتي بخبث لتسويق أسطورة عدم وجود بديل لخيارات الحكومة التي يتم تصويرها بحسن نية أو غير ذلك على انها على قسوتها تظل ليس فقط الخيار الوحيد المتاح بل الخيار الأمثل.
بداية نذكر بأننا رددنا كثيراً، أن وجود سعري صرف وفجوة واسعة بينهما هو مشكلة حقيقية واجبة الحل. وفي هذا نتفق مع خطاب الحكومة. ولكن الاتفاق على وجود مشكلة لا يعني الاتفاق حول كيفية تجاوزها فمن الحلول الجزافية ما قتل.
وقد طرحنا الخيار أدناه للرأي العام سابقاً، مراراً وتكراراً، قبل التوجه الجديد بفترة طويلة، لذلك لا يمكن وصفه بأنه يأتي متأخراً. في معالم الخروج من الأزمة، اقترحنا أنه يجب أن يعي صانع السياسة الأهمية الحاسمة لترتيب وتعاقبية خطوات الإصلاح، بصورة منظمة، ومدروسة، حتى لا يتم نحر الاقتصاد ببدء الإصلاح من حلقة النهاية، قفزاً على الخطوات الأولى التي لا غنى عنها.
القضية الأهم في المرحلة الاولي – قبل جذب تحويلات المغتربين عبر البنوك الرسمية – هي إيقاف انهيار سعر الصرف وتنظيم سوق العملات الأجنبية وتقنينه. يبدأ حل مشاكل سوق العملات الأجنبية بالسيطرة على عجز الموازنة والفطام عن الافراط في طباعة العملة كشروط لازمة لاحتواء التضخم.
عجز الموازنة هو الفرق بين إيرادات الحكومة وصرفها. لذلك يمكن احتواءَه بتقليل الصرف الحكومي غير المنتج على الأجهزة الأمنية والبيروقراطية وعبر ترشيق جهاز الدولة المترهل على مستوياته الفدرالية والولائية. وأيضا يتم تجسير العجز بزيادة الإيرادات عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول والارباح العالية، بما لا يثبط الإنتاج، ولا على حساب المواطن العادي، وعن طريق انهاء التهرب الضريبي والجمركي والإعفاءات وعن طريق تفعيل ولاية وزارة المالية على المال العام الذي يشمل مداخيل شركات الأمن والجيش والدعم السريع بما انه جزء من المؤسسة العسكرية، إضافة إلى تعظيم العوائد الجليلة على أنشطة التعدين والأنشطة الاستخراجية.
وبعد ان تتم السيطرة على التضخم وتهدأ نيرانه لفترة معتبرة يبدأ العمل على سعر الصرف الرسمي بتخفيضه لردم الهوة بينه وبين سعر السوق الأسود إلى أن تختفي. وبعد ذلك يتم تبني نظام سعر صرف من نوع الربط الزاحف ينتج عنه استقرار ولكنه في نفس الوقت يوفر ما يكفي من المرونة لتعديل السعر متى ما تغيرت مؤشرات كَمِّية محددة في بيانات الاقتصاد الكلي مثل الميزان التجاري، وميزان المدفوعات، ومستوى احتياطي العملات الأجنبية مع البنك المركزي وفروق التضخم مع الشركاء التجاريين والمنافسين في الأسواق العالمية.
وحين تنحسر الهوة بين أسعار الصرف، يتم إلزام كل المصدرين بتسليم البنك المركزي حصة معتبرة من عائدات العملة الأجنبية الناجمة عن النشاط التصديري، واستعمال ما تبقى منه في تمويل استيراد أغراض يحددها البنك المركزي، بناءً على أهميتها، ومشروعيتها الوطنية. ولن يكون ذلك صعباً، ولا قاسياً على المصدرين، لعدم وجود فرق يعتد به بين سعر رسمي وآخر أسود، لذلك لن تتضرر هوامش أرباحهم كثيراً. وفي جانب الواردات، تُفْرَض جمارك تصاعدية على السلع الكمالية، تزداد نسبتها مع ارتفاع درجة رفاهية السلعة، وكل ما ضاقت الشريحة الاجتماعية التي تستهلكها، ويتم أيضاً إعفاء السلع الأساسية، مثل الغذاء الأساسي، والدواء، ومدخلات الإنتاج.
هذا المنطق أعلاه يقر بأن تعدد أسعار الصرف مشكلة أساسية، واجبة الحل. ولكن الشيطان في تفاصيل الحل، وفي المدى الزمني للتحول، وهل يأتي متدرجاً بصورة مدروسة، وحسب معالم كمية في مؤشرات الاقتصاد الكلي، أم يأتي في جرعة علاج كيميائي واحدة شديدة الكثافة، قد لا يحتملها جسد الاقتصاد المنهك.
ونرى أن الحل الحكومي قد وضع العربة أمام الحصان، وأدخل رأسه في عادم العربة، حين اتجه نحو "تعويم" الجنيه قبل توفير شروط التعويم الناجح المذكورة أعلاه، وأولها وأهمها إنهاء هيمنة تمويل الصرف الحكومي بطبع العملة، بما يغذي نيران التضخم.
وهناك اقتصاديون معروفون يرون أن الحل الأمثل للمرض السوداني، هو نقيض التعويم، وينصحون بتبني أشد أنواع تثبيت سعر الصرف الرسمي. على سبيل المثال، ذهب بروفيسور ستيف هانكي، أستاذ الاقتصاد بجامعة جون هوبكنز الأمريكية إلى أن الحل الوحيد لمشكلة الانهيار المتفاقم لسعر الصرف في السودان، هو تبني مجلس عملة – وهو نظام سعر صرف يلزم الحكومة بالقانون بصرف/تحويل/بيع/شراء العملة الأجنبية للمواطن والمستثمر الأجنبي عند الطلب وبلا تأخير وبسعر صرف معلن وثابت لا يتغير.
وهذا النظام يقيد طباعة الحكومة للعملة الوطنية، إلا بعد توفير احتياطي يعادلها من النقد الأجنبي في البداية – يمكن تخفيفه لاحقاً – لأن القانون يلزمها بأن تبيع لأي مواطن، أو مستثمر أجنبي، الدولار بسعر ثابت عند الطلب، وهذا يتطلب أن يكون جل العملة الوطنية الدائرة في الاقتصاد مدعومة بمكون أجنبي جاهز في خزائن البنك المركزي.
البروفيسور ستيف هانكي هو، حسب سيرته في ويكيبيديا، أيضا زميل أول ومدير مشروع العملات المضطربة في معهد كاتو في واشنطن العاصمة والمدير المشارك لمعهد جامعة جونز هوبكنز للاقتصاد التطبيقي والصحة العالمية ودراسة الأعمال. اشتهر هانكي بعمله في اصلاح نظم العملات في بلدان الأسواق الناشئة وألبانيا، الأرجنتين، بلغاريا، البوسنة والهرسك، الإكوادور، إستونيا، إندونيسيا، جامايكا، كازاخستان، ليتوانيا، مونتي نيغرو، روسيا، فنزويلا، ويوغوسلافيا. وكان أحد كبار الاقتصاديين في مجلس مستشاري الرئيس رونالد ريغان وعمل مستشارًا لرؤساء دول في أنحاء آسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا والشرق الأوسط. وهو معروف أيضًا بعمله النظري والتطبيقي الرائد في مجالس إدارة العملات، والدولرة، والتضخم المفرط، وتحليل تكلفة الفوائد، والخصخصة، وغيرها من الموضوعات في الاقتصاد التطبيقي.
لاحظ أن مجلس العملة هو العكس، بل النقيض المطلق، لتعويم الجنيه. وحتى لو تحفظت الحكومة عليه كحل الا أنه كان بإمكانها تبني نظام مثل الربط الزحف كخطوة أولى، بما أنه يحقق استقراراً في قيمة سعر الصرف – مشروط بسياسات نقدية، ومالية، متسقة، وداعمة – ويوفر مرونة لصانع القرار، ويعفيه من مشقة الالتزام بتوفير عملات أجنبية، تساوي نسبة عالية مما طبعته، وما ستطبعه من عملة محلية.
وبعد صدور قرار تطبيق نظام الصرف الجديد، غرد البروفيسور هانكي مرة أخرى وقال "في حركة موهومة، خفض السودان عملته. هذا لن يساعد في الخروج من الأزمة الاقتصادية في السودان – أي فوائد قصيرة الأجل ستختفي بسبب التضخم." وهذا ما رددناه بلا كلل من أن الشرط اللازم لأي اصلاح اقتصادي هو لجم جماح التضخم أولا وكأولوية قصوى. وبعد ذلك غرد هانكي مرة أخرى أن "سياسة التعويم (المرن) المدار لن تنجح أبدًا وإن ما يحتاجه السودان هو مجلس عملة مثل الذي ساد في فترة 1957 – 1960."
إذن تحفظنا على نهج الحكومة لا يتعلق بهدف توحيد سعر الصرف. أي مفكر اقتصادي جاد لن يجادل في أهمية هذا الهدف، ولكن الخلاف يكون في تفاصيل الرحلة، وسرعتها، وفي كيفية مقاربة الهدف، والوصول إليه، وكما نبهنا فإن درب الآلام الذي سلكته الحكومة، حظه ضعيف في تحقيق الهدف المعلن، وشحيم في زيادة أوجاع ما تبقي من الطبقات الوسطى والدنيا.
في الختام نلتزم بما لا يلزم في ظرف ثقافي عادي، ونجد أنه لا مفر من تكرار ما كان يجب أن يكون واضحًا طوال الوقت وهو إن الهدف من فحصنا النقدي للسياسة الاقتصادية لا يأتي من رغبة في تثبيط عزيمة الحكومة أو اكتشاف عيوبها المتوفرة بكثرة في كل ملف وذلك إدراكا لان في نجاح السياسة الاقتصادية عبور السودان إلى بر آمن. بدلاً من ذلك، هدف الفحص النقدي هو التأكيد على أنه لإدارة الاقتصاد بفعالية، تحتاج الحكومة أولا إلى امتلاك وعي واضح بآلياته وطرق عملها. لا يستطيع أحد حل مشكلة لا يفهمها ولا يستطيع ان يدير أوضاعا من عتمة تعقيدها تستعصي على قدراته التحليلية.
شرط البداية اللازم للتعافي الاقتصادي هو توفر صانع السياسة على فهم واقعي واضح وصادق عن كيفية عمل الاقتصاد السوادني وعمل أسواقه المختلفة. لسوء الحظ، فإن هذا الفهم يتطلب مهارات تحليلية وازنة ومقدرة على مقاربة الواقع بالتفكير الأصيل الذي لا يحفظ المراجع عن ظهر قلب وانما يهتدي بها نقديا لتحليل واقع سوداني فريد لا يشبه غيره ولا توجد وصفاته في كتاب يُحْفَظ ويُخٓزٓن فِي الذاكرة وَيُسٓمَّع لاحقاً من كرسي الحكم بثقة تتوسل عبء الانسان الأبيض في اخراج الشعوب من ظلامها الذاتي إلى نور الحداثة النيو لبرالية.
معتصم أقرع
https://nebula.wsimg.com/47cfed1d6619e25302972f6b2de43c4b?AccessKeyId=149A53D0A14C37920676&disposition=0&alloworigin=1&fbclid=IwAR2rZukioKNnk6_DLMryrLObT-L8BUT1k_lWBnp-LaYlCjYotqcQ9U04s18


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.