مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحول من خلال تراجع النمو؟ التخيلات المتعددة واليوتوبيات الحقيقية للمجتمع المدني (4 1
بقلم فرانك أدلف (Frank Adloff)
نشر في الراكوبة يوم 15 - 03 - 2021

تقديم وترجمة: فادية فضة و حامد فضل الله (أوراق ألمانية)
مدخل:
نقدم هنا بحث عالِم الاجتماع فرانك أدلف بالعنوان أعلاه، والذي نشر في مجلة (Mittelweg 36)، التي يصدرها معهد هامبورج للبحوث الاجتماعية. والبحث يقدم لمحة عامة عن مجمل الأفكار المتداولة على الصعيد العالمي في سياق أزمة كورونا وتداعياتها على المجتمعات والاقتصاد العالمي، كما يقدم استعراضاً للأفكار المستقبلية البديلة والتي يجري تداولها في العالم الشمالي والجنوبي. نستعرض النص مكثفا في 4 حلقات. الترجمة الكاملة للنص مع الهوامش والمصادر، موجودة في حوزة المترجم، ويمكن أرسالها عن طريق البريد الاِلكتروني، لمن يرغب.
المقدمة
كشفت أزمة كورونا في ربيع 2020، العديد من المشكلات الاجتماعية الكامنة: بينت هشاشة تكوين الرأسمالية المالية، عدم المساواة في التعليم أو عدم المساواة بين الجنسين في شكل تأنيث أعمال الرعاية. وأظهرت بوضوح، عواقب إدارة الأزمة الحالية: الركود في الاقتصاد العالمي، ودول مثقلة بديون جديدة، وارتفاع معدلات البطالة … إلخ. لكن السؤال عن مجالات العمل والإصلاح الجديدة، التي ستفتحها الأزمة حاليًا (حزيران/يوليو 2020)، مازال مفتوحاً الى حد كبير. ما أصبح جليا الآن خلال أسابيع قليلة من الإغلاق أن اليقينيات القائمة يمكن أن تتحطم بسرعة عالية، ويتم استبدالها بوعي طارئ وامكانية ظهور الجديد.
سرعان ما حظيت أصوات الذين اعتبروا الإغلاق فرصة للإصلاحات الاجتماعية، والتي تهدف إلى استدامة بيئية أكبر لطريقة حياتنا، باهتمام متزايد.. ينصب التركيز على مطالب التحديث البيئي في شكل صفقة خضراء (جديدة). مع وجوب تعيين "المحفزات الخضراء" للانتعاش الاقتصادي، من أجل الجمع بين حماية المناخ والانتعاش وعودة النمو الاقتصادي قريبًا (Kröger et al. 2020). تُبنى على وجوب تَكييف الفردانية والديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الرأسمالي مع امكانيات البيئية المتغيرة. يرى مؤيدو "الرأسمالية الخضراء" بأن التقدم التقني سيُمكّن من فصل النمو الاقتصادي عن استهلاك الموارد (راجع Mol et al. 2014).
رفضت استراتيجية الاقتصاد المستدامة من قبل ممثلي المناهج التحويلية، المهتمون بتحويل أساسي في الاقتصاد والمجتمع. باستهداف الاكتفاء بالاقتصاد والاستهلاك ونظام اجتماعي قائم على المساواة، يتغلب على الإكراه في النمو الاقتصادي ولا يهيمن على الطبيعة ويستغلها. (Kallis et al. 2015). لقي هذا المنظور، استجابة أعلى، مع أثارة الإغلاق للتساؤل، إذا ما كان ذلك مشابهاً لدعوة منظري ونشطاء ما بعد النمو أو تراجع النمو. أشار الخبير الاقتصادي الألماني في مرحلة ما بعد النمو نيكو بايش (Niko Paech): "إن أزمة كورونا فرصة. لكشف أزمات، أخطاء التنمية: يبدو فجأة أن الإمداد بالسلع الضرورية للحياة، مثل الكمامات أو أجهزة التنفس الصناعي معرض للخطر. لقد تبين أن نموذجنا للازدهار غير محصن. وبالتالي يمكننا الاستجابة لهذا، بشكل مناسب من خلال استراتيجية ما بعد النمو." تظهر الأزمة من منظور تراجع النمو، بأن الاقتصاد وأسلوب الحياة الحالي لم يكن مستداماً، وهشاً للغاية. لذلك سيكون تراجع النمو هو الرد الصحيح على الأزمة. رغم إن الإغلاق لا يتوافق من ناحية المفهوم، مع تراجع النمو، لأن تراجع النمو لا ينجح لمعالجة أزمة ركود اقتصادي إلا إذا كان هناك تخطيط طويل الأجل وتحول تدريجي إلى مجتمع ما بعد النمو أيضاً. بمعنى يجب بناء نظام اقتصادي تدريجي بديل، أكثر مرونة ويعطي الأولوية لرفاهية الإنسان على النمو الاقتصادي (well-being over economic growth) (degrowth.info 2020). فالمطلوب هو إعادة توطين الدورات الاقتصادية، وفرض الدخل الأساسي غير المشروط، والأنشطة الاقتصادية المجتمعية، والتغلب على الزراعة الصناعية. نشرت في 13 أيار/مايو 2020، رسالة مفتوحة في العديد من البلدان واللغات بعنوان "جذور جديدة للاقتصاد"، ووقع عليها أكثر من 1100 خبير وأكثر من 70 منظمة، تضمنت صياغة لاستراتيجية خفض النمو كوسيلة للخروج من أزمة كورونا. يجب جعل المجتمع والاقتصاد والسياسة مستقلاً عن النمو الاقتصادي. هنا يجري الحديث صراحة ضد فكرة النمو الأخضر ويرى حل المشاكل الاجتماعية والبيئية في آن من خلال اتخاذ خطوات نحو تراجع النمو. في مجتمع ما بعد النمو، عادل، يمكن أن ينغلق الاقتصاد لأشهر دون تعريض السلع الضرورية الحيوية والخدمات الأساسية للخطر. كما نوقش السؤال عن الشكل الذي سيبدو عليه الاقتصاد بدون نمو، حتى في الجريدة الأسبوعية دي تسايت (DIE ZEIT) في 9 حزيران/يوليو 2020. مع الاشارة اللافتة، بأن الاقتصادات الحديثة يمكن أن تنكمش أو تستقر اقتصاديًا دون أن يكون لذلك عواقب وخيمة. كما يرى روبرت سولو (Robert Solow)، الحاصل على جائزة نوبل في عام 1987، بنشوء مشاكل عند الانتقال من اقتصاد النمو إلى اقتصاد ما بعد النمو وليس في اقتصاد ما بعد النمو نفسه. تأخذ معظم المساهمات مثل ماريانا مازوكاتو وكلوديا كيمفيرت (Mariana Mazzucato und Claudia Kemfert) موقعاً متوسطاً، أي بوجوب أن يكون هناك نمو في بعض القطاعات (مثل الطاقات المتجددة والرعاية)، بينما ينبغي تقليص القطاعات الأخرى. يرى المرء وصول خطاب ما بعد النمو في غضون ذلك إلى الوسط الليبرالي اليساري في ألمانيا.
ما بعد النمو، تراجع النمو
لسنوات تمحور نقاش مكثف في أوساط اقتصادية غير تقليدية في الشمال العالمي حول مستقبل المجتمعات الحديثة وما إذا ينبغي لأسباب بيئية واجتماعية القول وداعاً لفكرة النمو الاقتصادي الدائم. منذ النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده، كان الرأي الراسخ في العلوم والسياسة وأجزاء كبيرة من الجمهور السياسي أن على المجتمعات الحديثة أن تعزز نموها الاقتصادي. كان النمو وما يرتبط به من "تأثيرات المصاعد" (Beck 1986) أساس الاستقرار الاجتماعي، عبر ربط "الطبقات الدنيا" بنظام ديمقراطي، ودمج المهاجرين في أسواق العمل، وسياسات توزيع دولة الرفاهية، واحتواء عدم المساواة الاجتماعية. ويتم تمويل إعادة التوزيع من نمو الناتج المحلي الإجمالي. كان هذا في المجتمعات المعاصرة معقولا وفعالا لسنوات عديدة، إلا انها دخلت الآن في أزمة (Nachtwey 2016): لم يكن من الممكن تحقيق معدلات النمو المطلوبة لعقود من الزمن؛ وأصبحت العواقب البيئية المهددة لتوجه النمو موضع تركيز متزايد. على خلفية الصعوبات السياسية الكبيرة في فرض قيود إلزامية على الاستهلاك الهائل للموارد وكذلك على إنبعاثات (ثاني أوكسيد الكربون) في الاقتصادات الرأسمالية، في السنوات الأخيرة، كان هناك جدل متزايد حول الشكل الذي قد يبدو عليه النظام الاجتماعي غير القائم على النمو. (Jackson 2011) ومع ذلك، يحتاج مجتمع ما بعد النمو إلى مؤسسات جديدة، وهُوية مثالية وعقليات جديدة تتجاوز منطق النمو. وبخلاف ذلك، فإن مجتمع ما بعد النمو لن يجلب سوى تنافساً مكثفًا على الموارد الشحيحة في شكل التحرر من التضامن وترسيم الحدود (راجعMuraca 2014 ؛ Blühdorn 2016).
تتناول النقاشات الحديثة حول مجتمع ما بعد النمو على وجه الخصوص مصطلحات تراجع النمو وانخفاض النمو – انظر (Schmelzer / Vetter 2019). أدرج أندريه غورز (André Gorz) المصطلح الفرنسي (décroissance) (انخفاض النمو) في النقاش حول البيئة، وحدود النمو والرأسمالية لأول مرة في عام 1972. حيث يرى أن انخفاض النمو ضروري للحفاظ على التوازن البيئي للأرض. لسنوات عديدة أغفل النقاش حول سياسة بيئية جديدة، ثم بدأت جولة جديدة من النقاش في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فقط. تعرض في هذه المرة مفهوم التنمية أو التنمية المستدامة للنقد، ووضع سيرج لاتوش (Serge Latouche) (2015) مفهوم (تراجع النمو الاقتصادي) مقابل فكرة أن هناك مساراً واحداً فقط للتنمية (أي المسار الغربي) الذي يستوجب الاعتماد على منطق الاستهلاك المتزايد للموارد والسلع (راجع Acosta 2015). يُنظر إلى منظور تراجع النمو كبديل لمفهوم التنمية المستدامة، الذي يستهدف التوفيق بين التنمية والبيئة والاقتصاد. يمثل مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو عام 1992 نقطة تحول مهمة. حيث تم ترسيخ الحق في التنمية المستدامة لأول مرة كمبدأ معياري قَبَلَهُ المجتمع الدولي. بوجوب خدمة التنمية لاحتياجات الأجيال الحالية دون تعريض فرص التنمية للأجيال القادمة إلى الخطر (كما كان الحال مع تقرير برونتلاند لعام 1987).
تطور من مفهوم (décroissance) انخفاض النمو نقد أساسي لفكرة النمو، وتوسعت في السنوات الأخيرة لتصبح نقداً للرأسمالية في المجتمعات الاستهلاكية الغربية. لكن الجوهر النظري للنقاش الحالي حول انخفاض النمو (décroissance) يصعب تحديده. فحسب كاليس ودماريا وداليزا يتعلق الأمر في المقام الأول بنقد ما بعد الاستعمار للنمو: "بالدعوة إلى إنهاء النقاش العام ما بعد الاستعمار من مصطلح الاقتصادوية وإلى إلغاء النمو الاقتصادي باعتباره هدفاً اجتماعياً" (Kallis / Demaria / D'Alisa 2015: 3). وبحثهم عن بدائل لإيديولوجية النمو، يعبر عنها في مفاهيم وممارسات المشاركة أو البساطة أو المشاعات أو الرفاه أو الرعاية. لاحقاً تركزت المناقشات جوانب متعددة شملها النقد مثل القضايا البيئية المتعلقة بانبعاث ثاني أكسيد الكربون والاحتباس الحراري، الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر، النمو والنمو المتسارع، التحليلات النقدية للرأسمالية، تقسيم العمل على أساس الجنس، الاغتراب عن العمل والطبيعة، والمطالب من أجل تخفيض ساعات العمل أو المطالبة بالدخل الأساسي، واستغلال الجنوب العالمي، وبرامج التحديث الغربية. القاسم المشترك لهذه الممارسات والخطابات هو البحث عن أشكال بديلة للاقتصاد تدوم دون نمو، ومحاولة تصور عالم اجتماعي تنطلق منه حداثة عقلانية، قائمة على النمو. (انظرCastoriadis 2014a). البحث عن مجتمع مستقل لا يسعى لتحقيق أهداف النمو من أجل النمو، قادر على تحقيق الأهداف التي حددها بنفسه ويقيد نفسه بحرية بها. مجتمع لا تحكمه بشكل غير متجانس قيود عملية مزعومة وقوانين اقتصادية رأسمالية. بالنسبة لسيرج لاتوش (Serge Latouche) (2015: 55 وما يليها)، فهذه مهمة سياسية حقيقية تتطلب الشروع في تحول ثقافي للعقليات الإنتاجية والاستهلاكية للغرب، لتطوير يوتوبيات بديلة ملموسة ولتطوير نظرية متماسكة.
ترتبط كل مناهج المشاريع الاقتصادية البديلة بأغراض غير اقتصادية، مثل إنشاء رأس المال الاجتماعي والثقة، وعدم الاغتراب، والروابط المحلية، وانتقاد الطابع السلعي للعمل، ورفض التسلسل الهرمي، والدوافع البيئية وتلك الخاصة بالإنصاف والعدالة. يربطون عناصر السوق والاشتراكية والمجتمع المدني (راجع Adloff / Kocka 2016؛ Adloff 2020). ويظهرون وجود عدد كبير من المثل والممارسات غير الرأسمالية للنشاط الاقتصادي في ظل الظروف الرأسمالية العالمية، والتي لا يتم أخذها على محمل الجد من الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد ومن اليسار الماركسي. وهو ما يصعب البحث الفكري عن بدائل غير رأسمالية للتعايش. حيث ينتقد الثنائي الجغرافي جيبسون – جراهام (Gibson-Graham) (2014) وجهة النظر الرأسمالية للاقتصاد، التي تمنعنا من التعرف على البدائل وتسميتها. ويؤكد عالم الاجتماع ديف إلدر فاس (Dave Elder-Vass) (2018) أيضًا، بوجود ميل قوي لدى اليسار كما اليمين لرؤية الاقتصاد على أنه رأسمالي تماماً. وهذا لا يمنع الاعتراف بالممارسات الاقتصادية غير الرأسمالية فحسب، بل يؤدي إلى تثبيط العزيمة السياسية للمبادرات المناهضة للرأسمالية أيضاً. إن عدم رؤية هذا الاقتصاد، الذي ليس مطابقاً تماماً لاقتصاد السلع الرأسمالية، يؤدي في النهاية إلى تقويض الممارسات غير الرأسمالية أو المناهضة للرأسمالية بجعلها غير مرئية أو حتى إنكارها.
تسير وجهة النظر الرأسمالية بالتوازي مع فهم نظري إشكالي للاقتصاد. في تصور استقلال الاقتصاد، إن في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة المسترشدة بحسابات المنفعة الفردية والكفاءة، أو في علم الاجتماع كمرجع لنظام وظيفي اجتماعي ذاتي يتبع فقط منطق الربحية (راجع (Beckert 2014). ففي الواقع لا يتطابق الاقتصاد مع عمليات السوق ولا مع الرأسمالية: يعتمد الاقتصاد أيضًا على قطاع الاقتصاد المنزلي غير الربحي، أي الأعمال المنزلية والتعليمية غير مدفوعة الأجر، ويعتمد على عمليات إعادة التوزيع وتبادل السلع أيضاً. فالسوق بحد ذاته ليس ذاتي التنظيم: يجب أن تنظمه الدولة وأن يكون جزءاً لا يتجزأ من قواعد المجتمع المدني. وأخيراً فإن مؤسسة اقتصادية لا تتطابق بالضرورة مع مؤسسة رأسمالية. مثل التعاونيات أو أشكال الملكية الجماعية أو المشاريع غير الربحية. (Elsen/Walk 2016). يتم في ظل ظروف السوق، الجمع بين المبادئ الرأسمالية للرأسمالية مع أشكال تنسيق أخرى. لا تتوقف الجمعية التعاونية على تحقيق رأس المال وإنما تركز على تلبية احتياجات الأعضاء، بالإضافة إلى مبدأ الديمقراطية والتضامن أو ما يسمى "الروح التعاونية".
التحدي الأكبر لرؤية مجتمع ما بعد النمو هو في كيفية الجمع بين التحول عن النمو الاقتصادي والحاجة إلى معالجة التفاوتات الاجتماعية. إذا لم يعد الازدهار المادي ينمو، بل يتقلص، فمن منظور تراجع النمو، يجب فرض ضرائب أكبر على مجموعات الدخل والأثرياء. إن انخفاض النمو هو قبل كل شيء مشروع إعادة هيكلة وإعادة توزيع يحاول كبح الاِلتزام بالنمو الاقتصادي. يجب أن يكون الاقتصاد والمجتمع قادرين على التعامل بمرونة مع انخفاض النمو؛ ويجب أن تصبح المؤسسات الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي والتعليم أولاً وقبل كل شيء أقل اعتماداً على النمو الاقتصادي.
ما يعني من الناحية السياسية (راجع (Caillé & Les Convivialistes 2016)، تقليل اعتماد المواطنات والمواطنين على الشركات والأسواق. مما سيتطلب وجود قطاع عام متطور وفعال، وأشكالاً جديدة من التعاون بين الشركات والقطاع العام والمجتمع المدني أو المنظمات غير الربحية. لا ينبغي خصخصة قطاعات السلع العامة، بل يجب الحفاظ عليها وابتكار تحديثها، تعزيز التعاونيات ودعم العملات التكميلية الإقليمية. اطالة فترة صلاحية السلع الاستهلاكية، وتقليل الاعتماد على التنقل الفردي وأخيراً، تقليل الاعتماد ليس على الأسواق والشركات فحسب، بل على المال من خلال أشكال التبادل غير النقدي أيضاً. هناك حاجة لمؤشرات بديلة ومعايير نوعية جديدة لتقييم الاقتصاد (وليس الناتج المحلي الإجمالي). مطلوب في النهاية، تغيير مفهوم الشركات جذريا. في توجهها نحو مفهوم الاقتصاد من أجل الصالح العام (Felber 2012)، ولا يقتصر دورها على تحقيق الربح، بل يتعين عليها مراعاة جوانب الصالح العام أيضاً. وأن لا تفهم على أنها شركات خاصة بقدر ما تُفهم على أنها شركات مشتركة تعمل من أجل خلق قيم مشتركة تتجاوز القيم النقدية وفي عدم جعل التكاليف البيئية والاجتماعية خارج حساباتها. كل ذلك يدرج تحت كلمات أساسية، مثل اقتصاد التضامن والاقتصاد المشترك والمشاعات واقتصاد المجتمع أيضاً (راجع (Laville/Salmon 2015). بالإضافة إلى ذلك، هناك أشكال جديدة للاقتصاد المفتوح القائم على الإنترنت مثل شبكات الند للند (peer-to-peer)، ويكيبيديا، ولينوكس، والمشاع الإبداعي، وما إلى ذلك (راجع (Rifkin 2014).
يمكن لهذه التجارب الاجتماعية البديلة أن تساهم في نقاش اجتماعي حول تغيير يمكن التحكم فيه لمجتمع ما بعد النمو ويمكن تفسيرها بأنها عناصر مجتمع المستقبل. هي تمثل مختبرات يتم فيها تجربة توجهات قيمية جديدة، وتصرفات ذاتية وممارسات تجارب اجتماعية لنمط الحياة، كما تمثل أوساط حاملة لتغيير مستقبلي محتمل، نحو نظام اجتماعي غير موجه نحو النمو.
أما عن مدى واقعية تصور مجتمع بعد النمو، فلا يمكن الإجابة عنها في الوقت الراهن، لأسباب عديدة: أولاً، لا يزال البحث مركزاً على الجوانب التكنولوجية والعلمية القابلة للاستخدام لصالح التغيير، "الابتكارات الاجتماعية، بالكاد يتم البحث فيها" (Schneidewind / Singer-Brodowski 2014: 29). ثانياً، إن المؤسسات "الكلاسيكية" لإدارة الأزمات، الدولة والاقتصاد، تتوجه بنفسها نحو النمو. وبالتالي، فإن امتداد التطورات الاجتماعية الحالية غير قادرة على تقديم إطار للتنبؤ أيضاً. لا يمكن التفكير في انخفاض النمو إلا على أنه قطيعة مع مسارات التنمية السابقة. ثالثًا، لا يشير التوجه نحو النمو إلى نموذج اقتصادي فحسب، بل يشير إلى نموذج ثقافي أيضاً. (Büttner/Weyand 2016) أي التوجه نحو نماذج للحياة مطابقةً لصيغة النمو، على سبيل المثال، للتحسين الذاتي المثالي المستمر (Welzer 2015). من هنا لا يمكن التفكير في تغيير نموذج اقتصادي وحياتي قائم على النمو دون تغيير في التوجهات الثقافية الأساسية. بحسب نتائج النظرية الثقافية لهارتموت روزا (Hartmut Rosa) (2016)، وجوب فصل الارتباط بين الرخاء المادي ومفاهيم الحياة الجيدة التي تتميز بها الثقافات الغربية. وإمكانية تعميمه في الممارسة والكيفية التي يجب أن يكون هذا الفصل مفهوم نظريا؟ لا يزال غير واضح إلى حد كبير. يمثل الاِعِراض عن نموذج النمو تساؤلاً جذرياً عن طريقة الحياة الغربية الحديثة حتى الآن، إذ بالكاد تحيقيقه بدون تغيير عميق للثقافة المرتكزة على الموارد والعقليات الذاتية المقابلة لها. إن مثل هذا التغيير يتطلب العديد من المجموعات الداعمة، أبعد من الطبقات المتوسطة اليسارية البديلة الأصغر سنًا والمتعلمة أكاديميًا (Eversberg 2015)، والتي تمارس بالفعل هذا التساؤل الجذري حول نماذج النمو، التي يمكن تحقيقها عملياً.. بخلاف ذلك، سيبقى انخفاض النمو ظاهرة صغيرة غير قابلة للتعميم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.