جاء العيد بثيابٍ مبقعةٍ بالدم عند الخاصرة وربما في القلب مباشرة، إذ عانق الرّدى الشهيدان عثمان أحمد ومدثر مختار وجُرِح آخرون لينضموا جميعاً لقائمةٍ طويلة من ضحايا العنف السلطوي الذي – من أسفٍ – ظل يجتاح أرجاء الوطن حتى بعد أن أنهت الإرادة الشعبية فترة حكم نظام "الإنقاذ" البغيض التي طالما تمددت فيها خيوط الدم. كل قاموس الرفض والاستنكار لا يكفي لإدانة الاعتداء الوحشي الغادر على حشد الإفطار الجماعي السلمي التي تم تنظيمه بمناسبة ذكرى مجزرة فض الاعتصام.. هذه جريمة نكراء تضاف إلى ما سبقها، ولن يستكين الضمير الوطني وإرادة الثوار حتى يُنْصَبَ ميزان الحساب وتقام العدالة. كنتُ قد دعوتُ في كلمة منشورة في هذا المكان لمشاركة أسر الشهداء في إحياء ذكرى فض الاعتصام وفاءً للشهداء والجرحى والمفقودين وتأكيداً على مطلب المحاسبة الذي لا يسقط بالتقادم ولا يواريه النسيان.. وعطفاً على دعوتي تلك، ومع حدوث الاعتداء الآثم على الحشد السلمي، فقد كان القرار بالاستقالة من مجلس شركاء الفترة الانتقالية كتعبير أخلاقي عن رفض ما حدث وإدانته كما جاء في بيان الحزب الصادر فجر الأمس، والذي أشار – في ذات السياق – لمواصلة وزراء الحزب في تحمل المسؤولية مع زملائهم في الحكومة على أن يكون ذلك رهين بوجود إرادة سياسية مشتركة للسعي لتحقيق التصحيح والتغيير المنشودَيْن من شعبنا. إن أدب استقالة أو إقالة من هم في مواقع المسؤولية العامة في حالة هزيمة ما دعوا له – ولو بسبب آخرين – أو حدوث أي تفريطٍ أو قصورٍ فادح، خصوصاً ما يترتب عليه إزهاق أرواح، لهو من صميم ثقافة الحكم الديموقراطي الراشد، إذ أنه يعني إدانة الخطأ والتقصير – في أداء مؤسسات الحكم أو بعضٍ منها – ويعني فتح الطريق للمراجعة النقدية الأمينة للسياسات والممارسات بغرض الإصلاح، كما يعني قبل ذلك كله تقديراً لحرمة أرواح البشر وانحناءة أسف وخجل إنساني أمام شواهد قبور الضحايا واعتذاراً أخلاقياً لأسرهم، وكلها من الشروط اللازمة لإعادة البناء على أُسس مهنية سليمة وأخلاقية نقية إيفاءً لمطلوبات المسؤولية العامة. في ليلة عيد الأضحى الماضي نشرتُ كلمةً، في هذا المكان أيضاً، ومما جاء فيها وأغضب الكثيرين ما يلي: (يعود العيد وإحداثيات الواقع، في فضاء الوطن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تؤكد أن دورة المعاناة والأزمات الموروثة من النظام المباد ما زالت تراوح مكانها، وأن مسيرة الثورة على شفا جرفٍ هار.. وما مِنْ مخرجٍ غير وقفةٍ نقدية شجاعة وصادقة للمراجعة وتصحيح المسيرة قبل أن تتداعى الأشياء، ومن أهم ما يتطلبه ذلك التوافق على خطة استراتيجية شاملة ومنهج إداري علمي نزيه وشفاف لانجاز مهمة البناء الوطني على كل الأصعدة، وهي مهمة تستدعي شحذ إرادة التغيير، واستلهام روح الثورة ووحدة قواها واستعادة وهجها لتحقيق الأهداف الممهورة بدماء الشهداء). تظل المسؤولية ملقاة على عاتق السلطة الانتقالية، وعليها أن تشرع في تغيير نهجها في إدارة الدولة بما يضمن تنفيذ مهام الفترة الانتقالية بما ذلك رفع المعاناة الاقتصادية التي تثقل كواهل السودانيين – في الريف والحضر – والعمل على تحقيق شروط الحياة الكريمة، وبما في ذلك إصلاح الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية والمنظومة الحقوقية والعدلية بما يفضي لإنفاذ العدالة والمحاسبة على كل الجرائم دون مزيدٍ من التسويف، خصوصاً دماء الشهداء، وعدم الاكتفاء باطلاق الوعود وتشكيل لجان التحقيق دون قيود زمنية.. وصيانة حق الحراك السلمي وحرية التعبير، وفي هذا السياق نرحب بإعلان الحكومة توقيف المتهمين بإطلاق الرصاص في أحداث مساء أمس الأول تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة.. نكرر أن السبيل إلى ذلك هو المراجعة النقدية الشجاعة لتصحيح المسار، وتوسيع قاعدة إدارة الفترة الانتقالية بمشاركة كل قوى الثورة وذلك بتغليب لغة الوصل على لغة الفصل بين وإنهاء عقلية الخنادق المتقابلة والاستقطاب النخبوي البئيس لصالح التنافس – من خلال مشروع بناء وطني متفق عليه – من أجل خدمة الوطن لا من أجل مغانم ذاتية صغيرة ضعف فيها الطالب والمطلوب. 13 مايو 2021