تحاول السلطة الانتقالية في السودان إيجاد حلول وسطية لحلحلة المفاوضات المتعثرة بينها وبين الحركة الشعبية قطاع الشمال دون السقوط في فخاخ الانفصال، ومن بين الاقتراحات تمكين منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان من حكم ذاتي. الخرطوم – استخدمت السلطة الانتقالية في السودان إحدى الأوراق المهمة في مواجهة تعثر المفاوضات مع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، وذهبت باتجاه تنفيذ بند الحكم الذاتي للمنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) الذي نص عليه اتفاق جوبا للسلام، في محاولة لتقديم بادرة نوايا حسنة تجاه الحركة التي تصر على تطبيق كامل لعلمانية الدولة وتطالب بالحق في تقرير المصير. وأصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان مؤخرا مرسوماً دستورياً يقضي بتطبيق نظام الحكم الذاتي في المنطقتين، على أن يكون ذلك دون المساس بوحدة السودان شعبا وأرضا أو السلطات الحصرية للخرطوم. وقالت مصادر سودانية مطلعة ل"العرب" إن السلطة الانتقالية أكدت من خلال هذا القرار أنها ماضية في تنفيذ اتفاق السلام الذي واجه مشكلات عديدة منذ التوقيع عليه في أكتوبر الماضي، وأثبتت وجود رغبة في أن يدير أبناء المنطقتين شؤونهم داخل إطار الدولة وتتجاوب مع أي مطالب تصب في صالح ولايات الهامش، طالما لم تستهدف الوصول إلى نقطة الانفصال التام. وأضافت المصادر ذاتها أن توقيت إصدار المرسوم الدستوري بعد أن فشلت الجولة الأولى من المفاوضات مع حركة الحلو يبرهن على أن السلطة الانتقالية تلتزم بالموافقة على الحكم الذاتي للحركة الشعبية، وتنتظر تخليها عن بعض البنود الخاصة بتطبيق فصل الدين عن الدولة أو ما يعرف ب"العلمانية"، والاكتفاء بإقرار نصوص فوق دستورية تتضمن ذلك. وأصبح السودان قاب قوسين أو أدنى من إقرار علمانية الدولة بطريقة ضمنية، لكن بحسب رئيس الوفد المفاوض في الحركة الشعبية عمار أمون تتمثل المشكلة في أن "الحكومة ترغب في توقيع اتفاق يؤسس للعلمانية مع تغييرات طفيفة، بينما نريد تغييرات جذرية". وبمقتضى القرار الأخير سيتم منح سلطات الولايتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) نسبة من مداخيل ثرواتهما وتقاسم المناصب التمثيلية في المجالس التشريعية والحكومة في وجود سلطات مركزية وأخرى للأقاليم، ووجود سلطات مشتركة بين الطرفين داخل إطار الدولة، حيث يحكم كل إقليم ذاته عبر جميع السلطات الداخلية المخولة بضمانات يحددها كل إقليم. وقال المحلل السياسي الشفيع أديب إن مجلس السيادة يسير بخطوات محسوبة في ملف الحكم الذاتي للمنطقتين، فهو يسعى لإنهاء حالة الغبن التاريخي المتجذر لدى أبناء المنطقة بعد الحروب العديدة التي خاضوها ضد نظام البشير بإتاحة الفرصة أمامهم لإدارة الولايات التابعة للمنطقتين، ويوجه جهوده نحو التنمية لتكون الدولة المركزية حاضرة بما لا يقود للوصول إلى مرحلة الانفصال. وأضاف ل"العرب" أن الحكومة تدرك بأن تجربة انفصال الجنوب مريرة وسوف يكون من الصعب تكرارها من جانب المواطنين الذين رأوا بأعينهم هشاشة الدولة الجديدة، وترى أهمية إتاحة العمل السياسي والاقتصادي والإداري أمام الحركات المسلحة بعيداً عن أجواء الحروب السابقة، وأن القرار يتيح توافد أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى مناطقهم الأساسية لاختيار ممثليهم في إدارة الأقاليم والولايات. ويرى مراقبون أن الحكم الذاتي قد لا تستفيد منه حركة الحلو على نفس قدر الجناح الآخر للحركة الشعبية ويقوده مالك عقار، لأن الأولى تملك نفوذا عسكريا واسعا في جبال النوبة وغالبية المنتمين إليها من قبائلها، في حين أن حركة عقار لديها انتماءات قبلية من الشمال والوسط ورؤية سياسية واضحة لإدارة النيل الأزرق، وهذه الخطوة لن تكون كافية لضمان نجاح المفاوضات مع الحلو حال استئنافها قريبا. ويبدو أن السلطة الانتقالية أرادت بطريقة غير مباشرة غلق الطريق أمام أي محاولات لانفصال جبال النوبة التي يسيطر عليها عبدالعزيز الحلو، وهي منطقة جنوبية يعيش فيها مسلمون ومسيحيون ووثنيون معاً، ويعمل الرجل على ربط المنطقتين ككتلة واحدة بمستويات الثروة والسلطة. وتضمنت المسودة التي قدمتها حركة الحلو للوفد المفاوض ولم يجر التوافق عليها بشكل كامل، تقسيم السودان إلى 8 أقاليم، وإنشاء إقليم جبال النوبة غرب كردفان، وإقليم الفونج، على أن يكون حكام الأقاليم بدرجة نواب لرئيس الجمهورية، وتكوين مجلس رئاسي يقوم بمهام وسلطات الرئيس، بجانب رئيس وزراء يقوم بالإشراف على أداء الجهاز التنفيذي. وأوضح القيادي بحزب الأمة الفريق صديق إسماعيل أن السلطة الانتقالية حاولت أن تسد أزمة المفاوضات المتعثرة مع الحلو بخلق أزمة أخرى قد تؤدي إلى إرباك نظام الحكم في البلاد نتيجة وجود أنظمة مختلف للحكم في الولايات والأقاليم، مع أن اللامركزية تسود كافة إدارات الولايات إلا أن السلطة أدخلت نفسها في تفاصيل كان من المقرر حسمها في مؤتمر الحكم الدستوري الذي يجري التحرك بشأن عقده قريبا. وأشار في تصريح ل"العرب" إلى أن القرار لم يراع مهددات الوحدة الوطنية، لأن ما حدث الآن تكرر من قِبل الجنوب منذ بداية سبعينات القرن الماضي وأدى إلى انفصال دولة جنوب السودان عام 2011، وبالتالي فالحكومة تعمل على زراعة عواصف وأعاصير سياسية قد تهدد تماسك الدولة. وقد تكون الخطوة الأخيرة غير مقلقة في الوقت الحالي لكنها تسهل الاتجاه نحو استخدام حق تقرير المصير الذي أحدث جدلاً واسعاً في مفاوضات جوبا. وفي ظل الضغوط الدولية التي يتعرض لها السودان تبدو البيئة خصبة للانفصال، وكان يمكن تقديم تنازلات في قضايا أخرى مقابل تمرير مطالب الحكومة حول العلمانية، لكن الإعلان عن هذه الخطوات حاليا يشجع على رفع سقف المطالب. ويؤكد متابعون أن الحكم الذاتي لا بد أن ينبع من توافق كافة أبناء الإقليم ويجري التشاور حوله أولاً على نطاق مجتمعي واسع وليس على أساس المفاوضات مع قادة الحركات المسلحة وفرضه كأمر مسلم به قد يكون أحد مسببات الصراع بدلا من حله. ويذهب هؤلاء للتأكيد على أن الرأي العام الأوسع في المنطقتين يرى ضرورة حصولهما على تمييز إيجابي في التنمية نظير ما تعرضتا له من ظلم على مر التاريخ، تحديداً ولاية النيل الأزرق كأكثر الولايات إنتاجاً في مجال الزراعة ولديها مواردها الغنية وتعتمد عليها ولايات سودانية عدة، ومع ذلك هي من أكثر الولايات تخلفاً، وهو شعور بالغبن لا يزال يلازم معظم السكان.