كتبتُ هذا المقال في يوم 11/9/2018 رداُ على مقال الأستاذ الطيب صالح الذائع الصيت "من أين أتى هؤلاء؟" عزيزي " الطيب صالح " لم يعد السؤالُ " من أين أتى هؤلاء؟ " فما عدنا نكترثُ من أي كهفٍ من كهوف الزمانِ السحيق قدموا إلينا، ولا من أي أفقٍ شيطاني استوردوا بضاعتهم الكاسدة، بل صارَ السؤالُ الآن: إلى أين يقودُنا هؤلاء؟ إلى أين يسيرون بهذا الوطنِ الذي كان -حتى عهدٍ قريب – يختالُ بين الأوطان حصاناً عربيّ العنفوان! سماواتٌ "الخرطوم" أيها "الطيبُ" لم تعد تلك الدفاترَ الزرقاءَ التي كنا نكتبُ فيها خطاباتِ الحب لأمهاتنا وحبيباتنا، ولم تعد اختصاراً للصفاءِ الذي استبد طربه بمحجوب شريف يوماً فصدحَ متغزّلا " بناتك عيونن صفاهن سماي ". صارت سماواتُ "الخرطوم" طبقاتٍ من حديدٍ أطبق على بيوتها حتى انهرست ضلوعُها. غدت سماوات "الخرطوم" مفقوءة العينين، ترمقُ بأسىً حقيقي قوافل اللواري وهي تشق العتامير محملةً بشبابٍ جلُ حلمهم أن يهربوا من فجاج بلادي. وحتّى حين تحبلُ سماواتٌ "الخرطومِ" بالسحب، تتحولُ أرصفتها إلى عذاباتٍ من طينٍ وبعوضٍ ونتانة، والحاكم بأمر الله في قصره المنيف، وفي قلبه وقلوب حاشيته وقرٌ وأغشيةٌ وحجب !! مطار "الخرطوم" يا صديقي لا يزال يعجُ بالذين يودون الهرب من اللهيب، تجدهم واقفين وعيونُهم مطفأة البريق كعيون أسماكٍ ميتة. لا حياة في مطار فقيرٍ تخجلُ حين تزوره وقربك أجنبي. أما رأى هؤلاء مطاراتِ المدن التي لا يحكمُها القراصنة؟ أما شاهدوا المباني الفخمة، والخدماتِ العملاقة، والمرافقَ الباذخة؟ وحتى الذين يمضّهم الحنينُ ويعودون إلى الخرطوم، يقفون في صفوفٍ بائسةٍ أمام ضباط يجلسون داخل بيوتٍ زجاجية أشبه بكناتين تباع فيها السجائرُ عند الأرصفة. وهب سادتنا الجدد قالوا إنهم ورثوا مطارنا الرثَ هذا ممن سبقوهم: أين ذهبت ملياراتُ النفط؟ في أي وجوهٍ صُرفت؟ ولم يلفون هذا الملف بغلالةٍ العتمة إن لم تكن المليارات قد ذهبت إلى حسابات تنام في بنوك مدنٍ تصحو وتنام على مخدات الطرب؟ وأين ذهب مال الذهب؟ ولماذا يُهرّبُ جهاراً نهاراً إلى تلك الدويلةِ الرقيعة؟ وفيم تُنفق الجباياتُ والضرائب؟ "الخرطوم" التي كانت غرة عواصم الكون، وكانت تمشط شعرها، وترش العطر في عنقها وتذهبُ إلى المدرسة صباحاً، صارت مدينةً لا تقرأ. الخرطوم التي كانت أمسياتها تضج بمحاضرات "عبد الله الطيب"، و"علي المك"، و"منصور خالد"، و"عون الشريف قاسم"، و تسهرُ لياليها علي أصوات "وردي" و "الكابلي" و "عثمان حسين" صارت طفلةً تنام قسراً منذ السابعة. الخرطوم التي كانت تعج بالنشاط المسرحي والسينمائي صار منتهي حلمُ بنيها العثور على صحنِ فول (ورحم الله مؤسسة الدولة للسينما). الخرطوم التي كانت تضج بالأمسيات الطلابيةِ الحية، صارت طالباتُ جامعتها المنكوبةِ لا يملكن حق الدخول للحرم الجامعي بعد السادسة مساءً. و "الخرطوم" التي كان تبزُ كل عواصم العرب في التعليم صرنا نقرأ فيها عن مدارس تنهارُ على رؤوس تلاميذ يافعين، وسقوطِ معلمين في دورات المياه، وطالباتٍ يحبلن وهن في يخطون الخطوات الأولى صوب سلالم الأنوثة. "الخرطوم" لم يعد تلاميذها يمتلكون حقهم المقدس في الكتاب المدرسي و الطبشور و الحلم، صاروا يشترون الكتابَ المدرسي كما تشتري أمهاتهم الملح و الشطة من البقالات. "الخرطوم" صارت تشكو من المرض يا صديقي، وصارت مستشفياتها تباع جهاراً نهاراً، والوزيرُ الوغدً يستثمرُ في أجسادِ الشعب. مدينةٌ بلا تعليمٍ ولا صحةٍ ولا ثقافة … كيف بالله يريدونها أن تنشئ مجداً؟ صفوفُ الخبز عادت أكثر بشاعة من أيام الصادق المهدي، صار الحلمُ أن ينال أحدُنا قطعة واحدة. كيف تجوع ُبلادٌ يشقُها النيلُ من أقصاها إلى أقصاها؟ وإلام تنامُ هذه الأرضُ البكرُ مفتوحة الفخذين، شبقة الرغائب في انتظار بعلها العظيم؟ النيلُ لا يزال يسيرُ في رزانته القديمة. النيل ذلك النهرُ الأفعى لا يزال يتسللُ في رحلته الأبدية صوب الشمال. هم لم يستوعبوا الدرس القديم الذي ظل يردده هذا الدفّاق على مسامع حبيبته "الخرطوم": من هنا مرّ طغاةٌ كثرٌ، وقفوا تحت بوابة المدينة العملاقة، وأرغوا وازبدوا، ثم ابتلعتهم أمواجي، وغابوا في تابوت أعماقي، وأنا لا أزال أسير مرفوع الرأس في قافلة الأبد! صدقت أيها "الطيب": هم لم يصغوا لريحِ الشمال وهي تغازلُ جريد النخل. هم لم يروا بروقَ الصعيد وهي تشيلُ وتحطُ وهم لم يروا ذهب القمح وهو يتمايلُ طرباً في بيادر بلادي. هم لم يصيخوا السمع لجرس هذه الأرضِ المقدسة التي ستلفظهم – حتماً – يوماً ما. هؤلاء ليسوا منا يا صديقي . يخاطبُك الواحدُ منهم من طرفِ أنفه وكأنه خلقك فسواك فعدلك، يرتادُ أحدُهم المسجدَ ودمُه كله سحت، ويحدثك الواحدُ منهم عن الزهد وحساباتُه في البنوك تئن أنيناً من فرط ازدحام الأموال. يموتُ الناسُ جوعاً وقهراً ومرضاً وعوزاً فيبتسمون في وجهك تلك الابتسامة البلاستيكية العجفاء التي يبدوا وكأنها مقررةٌ عليهم في كتبهم الصفراء. زار الوزيرُ إياه مستشفى ما، فوجد الناس تلتحفُ الأرض فتساءل في لزوجةٍ " من أين يأتي كل هؤلاء الناس بالمرض؟ ووقف فقيههم خاطباً في أناسٍ جوعى وعراة، حاثاً إياهم على مساعدة إخوتهم في تركيا بالدعم المالي، وصدح ذات الفقيه منادياً خيول "البشير" أن تثب لجمع صفوف العالم الاسلامي، و"البشير" عجز حتى عن صون وحدة بلادٍ ورِثها حرةً ومتماسكة !! أهلُ الجنوبِ لم يعودوا ينزحون إلى الشمال يا صديقي. لقد أفتى أميرُنا بقتالهم. هو لم يرى فيهم إخوةً لنا في الأرضِ والنيلِ والتاريخ، بل رآهم قرابين تقدّم للحور العين. وحين فاضت الدروب دماً، ولبست المدنُ أثواب الحداد، خرج فينا نائحٌ يكيلُ السباب لأهل الجنوب في المنابرِ، ويثير الضغائن والإحن، حتى قررت "جوبا" أن تحملَ حقائب سفرِها وتغادرَ خارطةَ الوطن! عزيزي "الطيب صالح" الله أكبر من كل طاغية !!