إننا أمام كرة ثلج سودانية تتدحرج علي ذات أخواتها من الكرات التي تدحرجت، إذا هي كرة الثلج ذاتها التي سيجت طوال عقدين من الزمان بماورائيات عديدة وأساطير لاهوتية وأمنية وتجسسية وإدارية وفنية وأمنية خارقة، وهو الشيء الذي ولد وعيا غير مسبوق بالمكابرة لدي صانعيها وسائقيها وبعض ركابها، بل وفي توهم لاهوتي أن العناية الإلهية كانت وما زالت خاصة بهم وحصريا، لذلك هم ماضون لتحقيق الرسالة والتي هي سودانية، رغم أن ليس لها من السند لا بخاريا ولا مسلما ولا ترمزيا، الأمر هنا يتعلق بنظام الحكم السوداني والذي على ما يبدو في آخر محطات دورانه بعدما فقد كل معايير وأسباب الصلاحية والإستمرارية المتفق عليهما علي الأقل في - العلوم السياسية - شأنها في ذلك شأن نظم دول المحيط السوداني مع إختلاف بنية الأنظمة والمجتمعات لتلكم الدول من حيث العوامل والأسس والمتغيرات والدوافع والمرحلة والسياق. التغيير من خلال التاريخ نفسه عموما المعطيات السودانية في سريتها وعلانيتها، إن كانت هي سياسية أو إقتصادية أو عسكرية أو أمنية، تقول راهنا جملة واحدة مفيدة ومكتملة فعلا وفاعلا ومفعولا به، وهذه الجملة هي أن ثمة تغييرا يجب أن يقع في السودان، كما يجب أن يخضع السودان لشروط التحول والتغيير التاريخيين كضرورة حتمية، والتغيير هنا مع توافر مسبباته ودوافعه ليس بالضرورة أن يقع وفق مدارس التنميط العربية المتفاوتة شكلا ومحتوى والتي عرفت بالربيع العربي خلال بحر هذه السنة، وإنما بشكل آخر ومختلف. وهذا الشكل الذي وصفناه بالآخر والمختلف هو أن التغيير السوداني الأتي والمرتقب إلى حد بعيد يأتي لمعالجة كل القضايا السودانية في إطار التاريخ السوداني نفسه رغم فاتورته الباهظة ما دامت المؤسسة الحاكمة وضعت الجميع أمام اللاخيار. بهذا المعنى وفي إطار سلسلة مقالات نشرناها عبر جريدة القدس اللندنية في مارس آذار العام 2007 ونقلتها وقتتذ جريدة 'السوداني' السودانية وبعض المواقع الإلكترونية السودانية، قلنا فيها أن تطور الحراك السوداني ينحو هذه المرة من التأريخ تجاه إعادة إنتاج التاريخ السوداني وذلك بفتح الخرطوم مجددا وخلصنا إلى أن 'التغيير الحقيقي تجاه استحقاقات السودان هو تخليصه من الاستعمار القائم، وهذا لا يتم مطلقا الا باعادة انتاج التاريخ السوداني نحو العمل بكل ادوات تعبئة التحرير المشحونة ثوريا بفكر تحرير الوطن نحو فتح الخرطوم مجددا كحل وحسم نهائي، من أجل رمزية وسيادة الدولة السودانية الجديدة والتي يجب ان تقوم على انقاض الاستعمار الثاني في السودان بعلم سوداني جديد وعقد جديد واستقلال جديد، وهو منهج واجب لاستكمال نظرية التحرير النهائي والشامل لكل السودان...إلخ'، وهذا معناه أن التغيير السوداني القادم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ياتي حسب تنميط سياقات التغيير السودانية السابقة والمتمحورة ما بين الإنقلابات 'الثورة' أو الثورات الشعبية، حيث في الأول كان نوفمبر / الفريق عبود ومايو / نميري إلى إنقاذ/ البشير اليوم، فيما الثانية - أي الثورات الشعبية - هي في إكتوبر العام 1964 وإنتفاضة أبريل 1983. ليتبين من خلال مجموع تلكم التغييرات السودانية الخمس والتي عرفها السودان منذ تاريخه الحديث في كونها لم تنتج ثورة أو تحول ديمقراطي أو حتى تغييرا أو إصلاحا بقدر ما كانت تغييرا على مستوى التناسل والتكاثر الإستعماري والتي أنتجت معها كما هائلا من الشرعنات لإستمرارية تمركز الخرطوم ولفائدة تمركز الخرطوم الغردوني نفسه إن أتت عبر إنقلاب أو عبر غطاء ديمقراطي، إنها أديولجية الإستعمار الداخلي في مركزيتها الخرطومية الغردونية ذات الوجه الإستعماري والتي إنحرفت في إتجاه تنفيذ منهج 'الإلغاء الحاد' عبر الديني والعرقي والجهوي، وبالتالي على ضوء هذه النتيجة يبقي أي تغيير قادم من المركز علي طراز المحاولات السابقة فقدت مبررها وشاخت وباتت غير ذي جدوى وليست فاعلة ولا منتظرة، كما هي فاقدة للصدقية والمصداقية تاريخا وفق مؤشرات التحول السودانية، كما أنها فشلت في أن تحمل جديدا على مدار نصف قرن وأكثر. دخول الخرطوم مرة ثانية. في ذات السياق، إن محددات التغيير السودانية البديلة وكذا أدوات تنفيذها كما تحددها دائرة الصراع السوداني راهنا وبغض النظر عن إسقاطات 'السلطان/ المؤسسة'- من زحف جهوي أو عنصري أو زنجي أو خارجي - تأتي وفق ما يمليه حراك التاريخ السوداني وداخله والذي فيه تضع رمزية الخرطوم كمطبخ لصناعة السياسات الإستعمارية وتنفيذها ضد الهامش السوداني منذ التاريخ الإستعماري الأول هدفا مرة ثانية للتحرير والزحف عليها من طرف قوي السودان التاريخي، وهي نفس القوى التي لعبت دورا تحت 'راية' المهدي الأكبر في حصار وتحرير الخرطوم من أيدي الإستعمار البريطاني وذلك في يوم 26 من يناير العام 1885، ومن هنا إن حددت مقاومة الهامش السوداني وبتحالف مع قوى سياسية ديمقراطية في الداخل يوم 26 من يناير العام 2012 تاريخا لدخول الخرطوم، حيث تمثل الذكرى رقم 127 لتحرير الخرطوم، عندها سوف يكون له أكثر من دليل ومعنى ورسالة ورمزية في إطار حسم تاريخ الصراع السوداني والذي هو تاريخي ثقافي. لتصبح بعدها الخرطوم تلك العاصمة التي تحررت مرتين وعلى أيدي نفس القوى لإستقلال سوداني ثان والذي هو وطني يسعى لبناء ديمقراطي وعقد إجتماعي جديد كأولويات أساسية للتحرير الثاني ومن ثم تمزيق عقلية إدارة الدولة الإستعمارية والتي تتعاطي مع مستعمراتها عبر التسويات والشراكات والإتفاقيات في قضايا تخص شعوب وحضارات وثقافات سودانية تريد أن تتحرر وتسعي لنيل إستقلالها عبر البيان رقم واحد، والذي هو بلاشك بيان لدولة ديمقراطية تحكمها مؤسسات عدلية وإجتماعية وثقافية وإقتصادية وحقوقية وإنسانية تتسم بالعدالة والمساواة وتعبر عن تاريخ ومكونات الشعوب السودانية المتنوعة والمتعددة والتي تنسف معها طروحات الأبيض والأسود وفرضية أن هناك شعبا سودانيا واحدا وموحدا كما درجت ماكنية السلطة في حياكتها وتقديمها. يوم واحد و26 يناير ختاما، أن تختار المعارضة السودانية ليوم تاريخي كالذي سبقت الإشارة إليه لا ينفي أيضا الجدل القائم بين أجسام المعارضة السودانية المتعارضة وحقها في إختيار آخر، هو أيضا كما ورد دقيق وله مرجعياته ومسوغاته، نعني بذلك الفاتح من يناير العام2012، وهو 'العيد' رقم 52 لتحرير السودان من الإحتلال البريطاني، ليكون بالمقابل العيد الأول للتحرير الثاني للسودان من الإستعمار الداخلي، ونعتقد أن الأخير أشمل وأعم من الأول وهو تحرير الخرطوم، علما أن الأول والثاني لا ينفيان تحرير السودان، إن كان آتيا من الخارج أو مستوطنا في الداخل، ليبقى التأريخان، إستقلال السودان وتحرير الخرطوم وإعادة إنتاجهما أمرا مهما لأي تحول ذي غاية وهدف. محجوب حسين ' سياسي سوداني