ظللت أتابع ومعي مئات الآلاف من المشاهدين داخل السودان وخارجه، وللسنة الرابعة على التوالي برنامج «أغاني وأغاني» الذي يعده ويقدمه بنجاح منقطع النظير الأستاذ/ السر أحمد قدور.. جاذبية وعبقرية السر قدور لا تكمن في كونه مسرحيا قديرا أو شاعر أغنية فذ.. أو صحافيا ونجما إعلاميا، أو حتى ملحنا ومؤديا ومادحا، كل هذه المواهب الإبداعية تتوارى أمام موهبته الأساسية التي تتمثل في أنه واحد من أكبر «أسطوات الكلام» في السودان، فالرجل من أعذب «الكلمنجية» أو الحكائين في بلادنا. ظاهرة «أسطوات الكلام» هذه تجدها في كل قرية أو حي من أحياء مدن السودان، فلكل قرية حكاؤها وراويتها الذي يتحلَّق الناس حول مجلسه في الأفراح أو الأتراح وغيرها من المناسبات، يشيع البهجة أينما حلَّ، وينتزع الابتسامة والضحكة المجلجلة عنوةً واقتداراً. والسر قدور هو عمدة هؤلاء الأسطوات في سائر عموم السودان، فهو قد وظف رشاقة شعره ومعاصرته للأحداث والناس وقدراته الدرامية والإعلامية، حتى أصبح أعذب «كلمنجية» السودان. عرفت السر منذ بواكير طفولتي، فقد وُلدت في حي البوستة بأم درمان، وتعلق بصري في حواري ذاك الحي على السر، إذ كان يرتاد نادي حي البوستة الثقافي بل يكاد يقيم فيه، وكان ينام بكل بساطة على طاولة «البنج بونج» في النادي. وعن هذه الفترة كتب السر في تواضع يقول «كنت مقابل إقامتي في ذاك النادي مسؤولاً عن حراسة ونظافة النادي، وفي الأمسيات كنت معاوناً للمرحوم محمود إبراهيم الذي كان يتولى إدارة بوفيه النادي». وفي تلك الحقبة وفي أجواء ذاك النادي العريق، كان السر يصادق الأستاذ الراحل موسى إبراهيم فني التسجيلات القدير بإذاعة أم درمان، ويجالس نخبة من مثقفي أم درمان على رأسهم الراحل الأستاذ/ محمود حاج الشيخ عمر والأديب الراحل عبد الله حامد الأمين، والأساتذة علي المك وعمر حاج الشيخ والطيب زروق وعبد اللطيف زروق وأبو بكر خالد من رواد النادي، مما أكسبه الكثير من الوعي والثقافة، إلى جانب غيرهم من المبدعين الذين اتخذوا من حي البوستة سكناً لهم أمثال العاقب محمد حسن وزنقار وخواض وإسماعيل خورشيد ومحمود سراج والصحافي الراحل التجاني محمد أحمد. التقيت بالسر أكثر من مرة في التسعينيات بالقاهرة، فوجدته يحتفظ ببساطته الآسرة وزهد ملبسه ومسكنه وروحه الشابة وموهبته التي ازدادت نضاراً وتألقاً. وحكاية «زهد ملبسه» هذه أضحكتني يوم أن استضاف السر في برامجه التلفزيونية صديقه الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي، يومها لاحظ الأبنودي تأنق السر في بدلة فخيمة باذخة، فحبكت النكتة المصرية الحرَّاقة عند الأبنودي وهو يخاطب السر عبر البرنامج قائلاً «إيه ده يا أستاذ سر.. إنت النهار ده جاي متنكر ولا إيه؟!». وأذكر عندما التقيت به في تلك الأيام بالقاهرة وكان العهد قد طال به عن أم درمان والسودان، ورحنا نجتر ذكريات حي البوستة الأم درمانية، فبادرني ضاحكاً «شوف الزمن مشى كيف؟ تركت حي البوستة ومختار دفع الله شافع «أرسّله» دكان اليماني يجيب لي سيجارة ... دي الوقت مختار دفع الله شاعر غنائي كبير، وأخوانا اليمانية طفشوا خلوا لينا البلد!». الفاضل حسن عوض الله