* لم نهمل القطن والصمغ العربي إلا بعد اكتشافنا للبترول.. ولم ننقب عن الذهب، إلا عقب فقداننا لبترول الجنوب، وهكذا نحن دائماً نهمل ثرواتنا الزراعية والمعدنية والبشرية، ولا نهتم بها إلا في لحظة حاجتنا إليها كبديل أو فقداننا لأخرى، لذا ليس غريباً عنا عدم الاهتمام بفنان ثروة اسمه النور الجيلاني، يمثل نكهة المزاج السوداني! * خرج النور الجيلاني لفضاء الفنون مختلفاً عن الآخرين وكاسراً لأطر النمطية، ومتمرداً على المألوف والتقليدية.. لم يمشِ على خُطى من سبقوه، ولم يتأثر بأحد ممن غنوا قبله، بقدر ما أنه أراد أن يكون نفسه، حتى يصنع أسلوباً غنائياً خاصاً، ونهجاً فنياً مغايراً ومدرسة ذات خصوصية، لذا فإنه عندما ردّد بعض الأعمال المسموعة، مثل (إيه يا مولاي) قدمها ب(طريقته) قبل (صوته)، وب(أسلوبه) قبل (حنجرته)، وب(نهجه) قبل (أدائه)، فاختلفت معه، واختلف بها عن أقرانه وأنداده! * شهد مهرجان الناشئين للأغنية الشعبية في عام 1970م، أول ظهور حقيقي للنور، وبداية انطلاقته، بعد عاميْن من دخوله مجال الغناء.. أدهش الفتى صاحب الاثنين وعشرين ربيعاً الجمهور بطريقة الأداء المختلفة، وقوالب التقديم الفني التي لم يعتد الناس عليها، إذ خلط بإبداع فائق ما بين الشعبي والحداثة، فكانت الموسيقى حاضرة و(المندلين) سيد الموقف، بينما (الكورس) يؤدي دوره على أكمل وجه، لتكتمل اللوحة البهية بصوت النور الطروب المجلجل وأدائه الطاعم. * بدأ من حيث انتهى الآخرون، فإن كان البعض يراه متمرداً على الأشكال القديمة في الغناء وطريقة الأداء فقط؛ فإن النور الجيلاني عندما اختار أول أغنية خاصة ليضع عليها ديباجة حنجرته، كي تحمل اسمه، قفز من فوق أسوار المفردة المكرورة، وبحث عن نصٍّ شعري متجاوز، فكان اختياره ل(مادلينا) رائعة الشاعر المرهف محمد سعد دياب، التي حملت صوراً بديعة لما فيها من بلاغة تعابير وحسن وصف وجمال تصاوير . * اختلاف موسيقى النور مع أدائيّته المشبعة بالتعابير والبعد الدرامي والإحساس الذي يصل سدرة منتهى التعايش، أهدتنا تلك الخلطة السحرية التي تمثل أجمل تجربة فنية وأعذب نغمة صافحت الأذن السودانية. * قدم مجموعة كبيرة من الأغنيات ذات القيمة الفنية والجمالية العالية، وعمل على تحقيق (وحدة وجدانية) بأدواته الفنية قبل توقيع برتكول (ميشاكوس الإطاري)، واتفاقية (نيفاشا)، ورفع شعار (الوحدة الجاذبة) عندما كان شبح الإنفصال يلوح في الأفق، لذا فقد أحبه الجنوبيون بعمق، وعشقوه بتفانٍ، منذ أن قدم (يا مسافر جوبا)، ودعا الناس لمغادرة الخرطوم و(روِّح قوم) بنبرات تنبض صدقاً وحباً، لتأتي (فيفيان) وغيرها من الأغنيات التي أطربت الأبدان ورسخت بالأذهان! * كان (كبيراً) وهو يسبق الجميع بالتغني ل(الأطفال) عبر (خواطر فيل)، تلكم الأغنية التي يعشقها الكبار قبل الصغار، وحملت اسم أحد ألبوماته الغنائية ذائعة الصيت . * نفحة صوفية واضحة تلف أداء النور الجيلاني إزاراً ورداءً.. حضور مدهش على خشبة المسرح يجعلك مشدوداً نحو فنان مختلف (تسمعه) ب(الحواس الخمس)! * يفضل الانزواء بعيداً في مسقط رأسه بمنطقة (أبو حليمة) شمال الكدرو .. محبوب وسط أهله وبسيط في تعامله مع جمهوره.. خفة ظله وسرعة بديهته وتعليقاته الساخرة بجانب نجوميته؛ تجعله محط أنظار الناس أينما حل، على الرغم من أنه يفضل الحديث ب(الصمت) في كثير من الأحيان! * يعشق النور المريخ بوله وإحساس دافق؛ ويتبتل في محراب الزعيم بحب صادق، وظل لسنوات طويلة حريصاً على حضور مباريات الأحمر من داخل الاستاد، فهو أحد رموز المريخ التي نفخر بها، وحتماً سنكون سعداء جداً ونحن نشارك في حفل تكريمه مساء بعد غد باستاد ود مدني من قبل إدارة مهرجان ولاية الجزيرة للسياحة والتسوق، فشكراً لدكتور محمد طاهر إيلا وحكومته التي أنصفت مبدعاً يستحق التقدير وكل أشكال التكريم والتبجيل ..! * تغلب النور على المرض ولم تلن عزيمته وهو يفقد صوته الذي يمثل روحه وحسه وأداة تعبيره واحساسه، وهاهي الإبتسامة مطبوعة على وجهه بينما تباشير الحفاوة تمثل عنواناً له و (تتحدث) بطلاقة و(صوت جهير) لتعكس نقاء دواخله في أعمق وأصدق ألوان التعبير. * عزيزي النور : تنتظر المسارح عودتك لتجلجل أركانها من جديد حتى تخرج لتستقبل حنجرتك في مسيرة فرح وترحيب، فمثل صوتك لا يغيب ..! نقش أخير * حقاً أنه النور (الوجداني)..!