* تعتبر الحياة في قرى الشمالية من أبسط أنواع الحياة في كل الدنيا، أقول ذلك لأن الشخص هناك يعيش على أبسط الأشياء وبخاصة في المأكل والملبس وباقي متطلبات الحياة اليومية. * هناك في الشمال الشخص لا يهتم كثيرًا بملبسه أو حتى مظهره وهذا لم يكن بسبب الجهل أو عدم الاهتمام المطلق ولكن لأن ظروف الحياة تجبرهم على ذلك فأصل العمل في الشمال يتوقف على الزراعة، وما دونها يصبح استثناءً بكل تأكيد. * والزراعة هناك تقوم على الري (السقايي) بالترعة (الجداول والحيضان) والقراعة، وطبعًا القراعة الكثيرون لا يعرفونها وهي توجيه الموية للري في الأحواض. * وقال الراحل عثمان اليمني في بعض قصائده، وداك قراع مقرن مويتو فتران دار شوي يروق، عشان يفتل حبيل يربطبو قادوسًا صبح مطلوق. * والزول البقرع دا لازم يكون خايد في المياه العكرة ومجلبط بالطين التقيل، فكيف بالله عليكم يستطيع أن يكون نظيفًا أنيقًا أملسًا زي ناس البندر أو حتى أهل الزراعة المطرية؟ * سيبك من الخوادة في الوحل والطين، واتساخ الملابس والأجسام، فحتى شراب الماء لشخصه لا يتعب فيه المزارع هناك، بل يشرب من الموية التحتو بلا أي واسطة، يدنقر ويغرف بكفيه ويكركع كأفضل ما يكون الشراب. * وقال قبلًا الشاعر الشايقي المجيد السر عثمان الطيب في أغنية شدى بها الراحل محمد كرم الله يصف شراب الموية هناك، مشتاق لنزلة أنا بي تحت، ومشتاق لي قعدة في ضل تخين راماهو تمرة وبرتكانة ومنقة في الجيهي اليمين، وأرقد على صدري في الجديول وأكركع وأوروى زين، اندش وأحمد الله صح ما لا الزويل الحل دين. * وحياة الزراعة هناك تتطلب النشاط والبدار في كل شيء ولأجل ذلك تجد المزارع لا يهتم كثيرًا بملبسه أو مأكله، لأن ما يركبه هي الحمير وما يتعامل معه كله لا يتوافق البتة مع النظافة والأناقة. * شوفوا كلام الشاعر إبراهيم ابنعوف وهو يصف حال المزارع هناك، * داك مالي الرحل مندلي جايب للخضار ماروق وداك بدر يحش في قشيشو عجلان باقي شايل السوق وداك قراع مقرن مويتو فتران دار شوي يروق عشان يفتل حبيل يربطبو قادوسًا نعس مطلوق. * صحيح قد تكون الصورة الآن قد تغيرت نواعًا ما بعد أن تمدن البعض ورفض الزراعة وحام في بلاد الأنوار والكهارب، وترك الأراضي للغاشي والماشي وبعضها أصبح يبابًا تشكي لله حالها. * وما أجمل وصف الأم لولدها عن حالهم بعد أن قرر السفر من أجل المال وحسن الحال فقالت له في قصيدة لشاعر أرقي عبد المنعم أبوسير وغناها الفنان صاحب الصوت الرخيم عبد الرحيم أرقي يقول : * اسى لما خلاص كبرت داير تسيبنى اعيش برايا داير تفارقني وتهاجر والحزن يصبح جزايا كيف اهون عليك تحزن امك شان تحقق ليك غايا كان مناك ترحل تغادر قعدك في جنبك منايا كان مسافر عشان علاجي بلقى في شوفتك دوايا كان عشان تسقينا مالك نحن بي حنك روايا كان عشان كرعينا راحل نحن بي بعدك حفايا كان مسافر عشان تعرس خير ابوك مالي التكايا وخيرو وافر ابوك يحمدو مراحو مليان بالسعايا بالقروش الجيب مجكن ولسع برضو الجايا جايا برضو منك ما بقصر بحفر اديك المعايا كان ده كلو كمان شويه بتلقى في دهبي الكفايه اصلي من سويته ناذره يبقى لي أيام قسايا داخرة للزمن البعاند ولي سعادتك يا عشايا * ولأن الناس هناك اعتادوا على الطين والخضار والموية العكرة، أصبحت حياتهم اليومية متأثرة بها تمامًا، فعندما تكون هناك مناسبة فرح أو حزن، تجد الشباب متفرجخًا في الواطة والكراسي مجدعة بجانبه، وحتى الوجبات يتناولونها على الأرض،لا ترابيز ولا كراسي ولا بساطات، وعندما تطالبهم بالجلوس على الكراسي، يردون عليك بحزم يا زول هوي نحن ما ناس كراسي وفرشات، نحن ناس الجابري دي.