غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    شاهد.. الفنانة إيمان الشريف تفاجئ جمهورها وتطرح فيديو كليب أغنيتها الجديدة والترند "منعوني ديارك" بتوزيع موسيقي جديد ومدهش    مصر .. السماح لحاملى التأشيرة الخماسية بالإقامة 180 يوما بالمرة الواحدة    التغير المناخي تسبب في وفاة أكثر من 15 ألف شخص بأوروبا هذا الصيف    إبراهيم نصرالدين (درمي).. صخرة دفاع أهلي الكنوز وطمأنينة المدرجات    والي ولاية كسلا يشهد ختام دورة فقداء النادي الاهلي كسلا    بعثة نادي الزمالة (أم روابة) تغادر إلى نيروبي استعدادًا لمواجهة ديكيداها    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    الخارجية البريطانية: مستقبل السودان يقرره شعبه    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: دور المجتمع الدولي والإقليمي في وقف حرب السودان    توجيهات مشدّدة للقيادة العسكرية في الدبّة..ماذا هناك؟    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تدخل في وصلة رقص فاضحة بمؤخرتها على طريقة "الترترة" وسط عدد من الشباب والجمهور يعبر عن غضبه: (قلة أدب وعدم احترام)    شاهد بالفيديو.. الفنانة توتة عذاب تشعل حفل غنائي بوصلة رقص مثيرة والجمهور: (بتحاولي تقلدي هدى عربي بس ما قادرة)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    شاهد بالفيديو.. الفنانة توتة عذاب تشعل حفل غنائي بوصلة رقص مثيرة والجمهور: (بتحاولي تقلدي هدى عربي بس ما قادرة)    انشقاق بشارة إنكا عن حركة العدل والمساواة (جناح صندل ) وانضمامه لحركة جيش تحرير السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    مناوي يلتقي العمامرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    ما ترتيب محمد صلاح في قائمة هدافي دوري أبطال أوروبا عبر التاريخ؟    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة جديدة في ديوان «العودة الى سنار» للشاعر/ محمد عبد الحي (1)
نشر في الصحافة يوم 31 - 08 - 2010


قراءة جديدة في العودة إلى سنار «1»
في حضرة العمالقة
ذكرى الغياب
فاجأتني صديقتي ورفيقتي في زمن كالح عشته في غربتي، كانت لي فيه نعم الرفقة والعون بقدر ما كانت تشيع حولها بفيض معرفي ادبي لا يعرف الملل، كانت دائمة الابتكار لأمور ادبية وثقافية لا نفكر فيها في غمرة انشغالنا بالحياة. وكانت المفاجأة هي هذه الدراسة الرصينة بعنوان «قراءة جديدة في ديوان العودة إلى سنار» للشاعر محمد عبد الحي.. تقديم فاطمة القاسم شداد
ففهمت سر نبشها في أوراقي عن كل ما يتعلق بسنار.
كتبت هذه الورقة في عام 5991م باجتهاد شديد في جمع المصادر، اذ لم نكن في ذلك الحين قد فتحنا وديعته التي أودعها، مما كان قد يفيدها كثيراً في البحث.
ولكن بما حصلت عليه من مخطوطات أجرت مقارنة دقيقة لكل حذف او اضافة او تغيير ما بين 2691 و5891م. وقسمتها الى ثلاث مراحل: مرحلة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ثم ختمتها بهوامش وثبت المراجع.
واعتقد انها دراسة جديرة بالاهتمام، شأنها شأن بحوث الدكتورة فاطمة شداد التي تتسم بالصدق والمثابرة، ولا اريد ان افسدها بالتلخيص.. لذا سننشرها على حلقات حتى تجد طريقها للنشر في كتاب، كما ارادت فاطمة وكما وعد الاخ الاستاذ نصر الدين شداد، له وللأسرة الود والتحية.
رحم الله فاطمة شداد
رحم الله محمد عبد الحي
ورحم الله محمد محمد علي
عائشة موسى
اولاً نفذة تعريفية:
٭ افتتح الشاعر الناقد احمد عبد المعطي حجازي- في تعليقه على ديوان «حديقة الورد الاخيرة» للشاعر محمد عبد الحي- مقاله بقوله:«لا بد أن يتهم المرء نفسه أو يتهم الحياة الأدبية حين يتعرف على غير انتظار بهذا الشاعر الذي اقدمه لكم اليوم، فيفاجأ بموهبة فريدة، كان حقها أن تقدم من أول قصيدة، فكيف وقد أصدر الشاعر الى الآن سبعة كتب، ظهر اولها قبل اثنين وعشرين عاماً وظهر الاخير الذي عرفت به الشاعر هذا العام.
إن مسؤوليتنا، بما فينا الشاعر نفسه، لا تنكر.. ولكن المسؤولية الأولى تقع على هذه الحياة الادبية التي نعيشها، والتي تحكمها شروط تقطع الطريق على الموهوبين وتثير الضجيج حول أدعياء كثيرين.
لقد عبر أحمد عبد المعطي حجازي بصدق كامل، عما يحسه الكثيرون في أن ملابسات كثيرة ومختلفة في الحياة تقطع الطريق أمام الموهوبين من المبدعين. وتفتح الطريق بلا تحفظ أمام الادعياء. والشاعر الناقد محمد عبد الحي «4491م 9891م» من المبدعين الذين اسهموا اسهاماً جدياً في ترسيخ اقدام القصيدة العربية في العالم العربي منذ بداية الستينيات من هذا القرن، وقد اضاف خطابه الشعري تجارب عميقة لمسار القصيدة العربية على مستوى الشكل المنجز في نصوصه، وعلى مستوى المضامين التي أبحرت قصيدته للإمساك بها في محيط واقع ثقافي معقد.
وتشير المؤثرات الثقافية في تكوين عبد الحي الى تمازج الثقافتين التراثية والوافدة في مرحلة تعليمه النظامي بين جامعة الخرطوم والجامعات البريطانية، فالشهادة الجامعية الاولى من بلاده والشهادتان الاخيرتان من ليدز واسكفورد بالمملكة المتحدة في مجالي الادب الانجليزي والأدب المقارن. وعرف عبد الحي- بجانب التعليم النظامي- بسمة اطلاعه في شتى مجالات المعرفة الإنسانية بصفة عامة، كما شهر بتبحره المتواصل في أعماق التراث الادبي العربي منه والاجنبي. وقد توجت جهوده العلمية بترقيته الى درجة الأستاذية من جامعة الخرطوم قسم اللغة الانجليزية، حيث كان يعمل عضواً في هيئة التدريس.
وبدأ عبد الحي نشر نتاجه الادبي منذ بداية الستينيات، وظل يكتب بلا توقف حتى وفاته عام 9891م، متخطياً الظروف المرضية القاسية التي أحاطت به منذ بداية الثمانينيات، وعلى الرغم من مرضه ظل متحلياً بالصبر والجلد والكبرياء، مقاوماً المرض الذي لازمه حتى آخر يوم في حياته، وقد أثرى عبد الحي كلاً من المكتبتين الشعرية والنثرية بنتاجه الغزير في مجالي الشعر والنشر، فظهرت له في مجال الشعر ثماني مجموعات مطبوعة هى «العودة الى سنار، أجراس القمر، السمندل يغني، معلقة الإشارات، حديقة الورد الأخيرة، الله في زمن العنف، رؤيا الملك «مسرحية شعرية» أعراس البحر «مسرحية غنائية».
ونشر عبد الحي في مجال الدراسات النقدية والأدبية، عدداً كبيراً من دراساته، من أهمها «الحرية والضرورة في شعر أدوين ميور» وهى رسالته لدرجة الماجستير «ليدز 9691» و«التراث والتأثيرات الانجليزية والامريكية على الشعر العربي الحديث»، وهى رسالته لدرجة الدكتوراة، اكسفورد 3791م، وقد نشرت في كتاب 2891، و«الاسطورة الاغريقية في الشعر العربي المعاصر 0091-0591م» و«الهوية والتعدد» و«شعراء انجليز في العربية»، و«الرؤيا والكلمات»، و«قراءة من شعر التجاني يوسف بشير»، هذا بجانب نشره لعدد من الدراسات الادبية في دوريات عربية وأجنبية، وكان عبد الحي بجانب الشعر والتأليف يسهم في المؤتمرات العلمية واللقاءات الثقافية داخل البلاد وخارجها.
ثانياً: العودة إلى سنار
مقدمة:
٭ يرتكز ديوان «العودة الى سنار» على مطولة الشاعر التي حملت هذا المسمى، وهى قصيدة من خمسة اناشيد طويلة، وتمثل هذه القصيدة بنصوصها المختلفة منذ بداية ظهورها في عام 3691م الى نهاية تكوينها في نصها النهائي عام 5891م، مراحل التحول والتغير والنمو المتواصل في شاعرية عبد الحي، كما يشير الى ذلك الشاعر نفسه في رسالة بعث بها الى صديق له عام 2791م.
«ارسل اليك مراحل ال Foetus للقصيدة تحولاتها تحولاتي.. منذ أن كتبت ثم نشرت في الرأى العام في ديسمبر 3691، ثم حوار 5691م، ثم كتابتها مرة أخرى في يوركشير واكسفوردشير»، ويشير الى أنه قد أعاد كتابتها سبع مرات أو نحو ذلك، وكأنها تدرج من مقام الى مقام، حيث تاريخ الذات وتاريخ القبيلة شيء واحد».
ويعتبر عبد الحي هذه القصيدة «دفعة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب، كما رغب جويس أن يشكل مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد، كما يعدها فتحاً آخر ومركزاً لقواه الشعرية. لذلك فهى في رأيي من أهم أعماله الإبداعية لأنها عمل متعدد المستويات، اتسعت فيه تجربة الشاعر الذاتية بكل تداعياتها ومعطياتها الخاصة، لتلتحم مع تجربة كلية تغوص الذاكرة في اعماقها- متخطية حدود الزمان، والمكان، والتاريخ- هادفة الى اعادة البناء، ووصل لجذور وخلق عالم جديد ومتناغم، فقد عبرت القصيدة مراحل زمنية متعددة انتهت بالمستوى الختامي المثبت في الديوان الاخير الصادر عن دار النشر بجامعة الخرطوم عام 5891 قبل وفاة الشاعر بأربع سنوات.
ولعل إشارات عبد الحي لكل من جيمس جريس وعذرا باوند ولا تزال سنار في مراحل التدرج الاولى- وفقاً للمقامات المتداخلة التي شكلت رؤية الشاعر النهائية بعد ذلك بما يزيد عن العشر سنوات- دلالة واضحة على حاسة التنبؤ لدى الشاعر التي جعلته يوقن بأن هذه القصيدة ستبلغ درجة الأعمال العالمية الخالدة المُشار الى اصحابها. لا سيما أن تلك الاعمال التي استضاء بها الشاعر قد انتهجت المنهج التدرجي نفسه، فقصيدة «الأرض اليباب» لإليوت كانت هاجساً مسيطراً على إليوت قبل كتابتها بسنوات، ثم كتبت على مراحل زمنية متفاوتة، ورُفدت وهى في شكلها النهائي بمقطوعات من شعر الشاعر كانت سابقة لتاريخ القصيدة، وقد اشترك عذرا باوند، صديق الشاعر في عملية التنقيح والاضافة والحذف قبل أن يصل النص الى شكله النهائي. أما رواية «صورة الفنان في شبابه» وهى الرواية التي تمثل اطوار حياة الكاتب في مراحل نموه النفسي والعقلي، فقد امتدت فترة كتابتها الى عشر سنوات من عام 4091-4191م. ومعلوم ان اناشيد عذرا باوند نفسه قد تنمو وتتطور عبر مراحل حياته الادبية.
وتعرضت قصيدة «العودة الى سنار» في مراحل ظهورها المختلفة الى قراءات نقدية متعددة من قبل عدد من الدارسين والنقاد، وقد حاولت تلك القراءات الاقتراب من النص المتاح في حينه، ولكني لم الحظ في جميع ما توفر لدي من تلك القراءات، وجود دراسة عُنيت بتشبع مراحل النمو داخل النص، أو ما أسماه الشاعر مراحل ال Foetus .
والمعنى الدقيق لكلمة Foetus كما جاء في قاموس اللغة الانجليزية هو مراحل نمو الجنين داخل الرحم من الاسبوع الثامن الى تاريخ الولادة، والارجح أن الشاعر قد قصد باثباته الكلمة الانجليزية بنصها التنبيه الى الجانب التدريجي المرحلي في بناء «العودة الى سنار»، لافتاً الانظار في الوقت نفسه الى عملية التمازج والالتئام بين الذات الفردية «الجنين» والذات «الجمعية»- معطيات الرحم أو البيئة المغذية للجنين في مراحل التكون البطئ، حيث يلتئم تاريخ الذات بتاريخ القبيلة.
٭ إن القراءة الحالية للقصيدة تهدف للغوص في أحشاء «العودة الى سنار» منذ أن كانت جنيناً في مراحل النمو الاول، في الستينيات الى ان اصبحت عملاً ابداعياً كاملاً. وهو عمل يجمع شتات جزئيات الرؤية، ويقدم في النهاية التجربة الشاملة في منتصف الثمانينيات.
وربما حفز كاتبة القراءة الحالية الى انتهاج هذا المسلك، أمر لعله لم يتوفر لغيرها، وهو حصولها على نص اصلي للمخطوط بخط الشاعر، وهو مخطوط تاريخه مايو 0791م.
كما حظيت الباحثة برسالة «شخصية» غير منشورة يذكر الشاعر فيها أن الارهاصات الاولى لهذه القصيدة قد بدأت وهو مازال في المرحلة الثانوية في مدرسة حنتوب، ثم امتدت خلال دراسته الجامعية، ثم تواصلت بعد ذلك، هذا بجانب حصول الباحثة على نسخ قديمة منشورة للقصيدة يرجع تاريخها الى الستينيات، وأهمها النص الذي نشر في مجلة «حوار» البيروتية عام 5691م، وقد اشار اليه الشاعر في رسالته السابقة الذكر الى صديقه خالد المبارك، كما استعانت الدراسة بالطبعتين الأخيرتين الصادرتين عن دار النشر بجامعة الخرطوم، في عامي 3791و 5891م.
وهكذا فقد أتيح للباحثة فرصة الوقوف على مراحل النمو Foetus داخل تلك النصوص مدعمة بلسان شاعرها وهو يردد «وهل أنا غير حصاة تتبلور فوق جمر الأغنية».
وقبل البدء في دراسة النص أرى أنه من الضروري في ختام هذه المقدمة الاشارة الموجزة الى مؤثرين لهما أهمية قصوى في تكوين شاعرية عبد الحي في «العودة الى سنار» وفي أعماله الشعرية الاخرى بصفة عامة. واولهما: المؤثر الثقافي الجامع بين استيعاب التراثين «العربي والغربي» فالتراث العربي- لدى عبد الحي- يُعد الاصل والينبوع الاول الذي يفجر طاقة الابداع، وكان دوماً يؤكد ضرورة هذا المؤثر في تكوين الشعراء بوجه عام، حيث يرى أنه: «علينا ان نبحث عن وحدة شجرة الشعر العربي في استمرار العناصر الداخلية التي تصل بين جذورها وفروعها وثمارها وفي مواسمها المختلفة. ولا قيمة للأثر الأجنبي إلا بمقدار ما تمثلت الشجرة عناصره، وامتصتها في نسيجها وجعلتها جزءاً من طبيعتها». ويمكن داخل التراث العربي الذي استوعبه عبد الحي و«اعانته موهبته القوية المستقلة عن تخطيه والانتقال به الى مستوى جديد في المعنى والاسلوب»، التراث الصوفي الذي يمثل حضوراً خاصاً في «العودة الى سنار». ثم يتخذ التراث الإفريقي المحلي كذلك مكانة لا تخفى في شحذ قريحة الشاعر وثرائها.
وقد تحقق مؤثر التراث الغربي لدى عبد الحي عن طريق القراءة المتخصصة، مع الاقامة في البيئة الغربية نفسها قرابة العشر سنوات، وهى مرحلة الدراسة لشهادتي الماجستير والدكتوراة، وقضاها الشاعر بين جامعتي ليدز واكسفورد، وبجانب القراءات والتنقيب في مصادر الادب الانجليزي، الرومانسي والحديث، في محاولة لإيجاد الجسور بينه والادب العربي. وكان لوجود عبد الحي في مدينة اكسفورد المتميزة بعبقها الخاص المفعم بالزخم التاريخي، ومناخها العلمي الذي يمتزج فيه الواقع بالاسطوري، خصوصية لا تنكر في إثراء تجربته الشعرية ووصلها بمؤثرات التراث المحلي. وإن كان عبد الحي قد ظل يؤكد دائماً أن مؤثر التراث العربي بالنسبة له هو الاصل، لكنه لم ينكر أهمية المؤثر الغربي في إثراء الأدب، حيث يراه «كالريح التي تستثير جمراً كامناً في رمادها حين يتراكم هذا الرماد لضعف يصيب الثقافة أو الشعر في فترة ما». وهو «قد يدفع بحركة تولدت من صلب العناصر الاصلية ويزيدها نشاطاً، فهو مثل السماد الذي يساعد على ازدهار النبات، ولعله احياناً عنصر ضروري لهذا الازدهار، لعل النبات يظل احياناً ضعيفاً ضئيلاً دونه ولكنه حتماً ليس اصل النبات او بذرته».
إذن فبامتزاج البذرة الأصل وامتزاجها بالسماد «العنصر المجلوب» برزت التجربة الشعرية الكاملة في ديوان «العودة إلى سنار» مما يجعلنا نتفق مع الشاعر الناقد محمد المهدي المجذوب في تعليقه على شعر عبد الحي بقوله:
«فهذا الشعر نسيج ملتحم أصيل، والتوفيق بين التراث العربي وحضارة العصر وتراثها الانساني أمر دقيق لا يستوي إلا على يدي ملكة قاهرة رزق الله بها عبد الحي. «وهو على كل شيء قدير».
أما المؤثر الثاني فهو تجربة المرض الذي عانى منه الشاعر عشر سنوات منذ عام 0891م، وقد دفع المرض به الى معوقات ومشكلات كثيرة، حينما اصيب بالشلل الجزئي ثم النصفي، كما أحدث الشلل- أول أمره- تأثيراً على مركز اللغات لديه. إلا أن قوة ارادة عبد الحي، وصدق إيمانه حولتا تلك العوامل السلبية الى عوامل إيجابية، فتعلم الكتابة باليد اليسرى، وظل يواصل العطاء دون توقف، وقد جعلته هذه التجربة يغير نظرته لبعض الاشياء والمواقف، كما امدته بشفافية زادت من رهافة حسه، ورفدته بقوة تأملية. وكان يقول وهو في ذروة مرضه «الآن فقط وقفت على قدمي- لقد أوصلني لهذا المرض». وكانت له قدرة ساحرة على امتصاص أحزانه وأحزان من حوله، بروح من السخرية يحاول عن طريقها التخفيف عن نفسه والآخرين، فعند قدومه من لندن بعد نوبة المرض الثاني التي المت به بعد منتصف الثمانينيات، وكان حينها يجلس على كرسي متحرك، كان يقول «ذهبت برجلين وعدت بأربعة أرجل»، كما أثر عنه قوله وهو طريح مستشفى سوبا بالسودان في آخر أيامه: «من نعم الله علىَّ ان عيوني ترى، وعقلي يفكر وكل ما عداهما يعتبر عطل فني».
وهكذا تضافرت المؤثرات السابقة لتنسج خطوط «العودة إلى سنار» التي نضجت على مراحل ثلاث، كانت أولها مرحلة الستينيات والشاعر في العشرين من العمر، ثم مرحلة السبعينيات والشاعر على مشارف الثلاثين، ثم أخيراً مرحلة الثمانينيات والشاعر في الأربعين من عمره، وقد توفاه الله بعد ذلك بسنوات قليلة.
وكأنما كان عبد الحي يتحدث عن شعره بصفة عامة، وعن «العودة الى سنار» بصفة خاصة عندما نشر دراسته «الرؤية والكلمات» عن الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير في العام نفسه الذي نشر فيه طبعته الاخيرة لديوان «العودة الى سنار»، فقد ختم مقدمة دراسته عن شعر التيجاني بقوله :«الشعر عند التيجاني- مراحل ثلاث، انقسام النفس- وتطوره باللغة- اللغة السحرية- الرمز الى تصالح النفس والتئامه بالعالم والاشياء العادي بالقدسي، وأخيراً ظهور الشاعر الناضج يحمل مسؤوليته وتاريخه الانساني والكوني، وثقافته القومية، وشعبه، وسياسته، وطبيعته، حتى وصل الى ذروة الشعر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.