خلصنا فى مقالنا السابق إلى أن الوثيقة المسماة بدستور السودان الانتقالى لسنة 2005م لا تساوى فى ميزان الفقه الدستورى وفقه القوانين قيمة الحبر الذى كتبت به، طالما لم تتم إجازتها بواسطة الشعب السودانى فى استفتاء عام حر نزيه وشفاف. وبالتالى فلا يمكن الاستناد إلى هكذا وثيقة لإثبات شرعية الحكومة القائمة. أما إن كان هنالك دستور ينبغى الاستناد إليه لإثبات شرعية الحكومة، فهو دستور السودان لسنة 1998م، منوهين إلى أن المخرج من هذا الوضع الدستورى الشائك يستوجب تشكيل حكومة قومية ذات أفق واسع. وما نود أن نفتتح به هذا المقال بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهل له، فهو التأكيد على أن اتفاقية السلام ملزمة شرعا وقانونا للأطراف التى وقعت عليها دون غيرهم، مع الاحترام التام لرغبة شعب جنوب السودان فى الانفصال عن الشمال. والاعتراف الكامل بنتيجة الاستفتاء، بيد أننا نحبذ أن يترك الباب مواربا لشعبى الجنوب والشمال للتعبير مستقبلا عن رغبتيهما بموجب استفتاءين متزامنين فى إعادة تأسيس وبناء أمة سودانية موحدة آمنة متحضرة ومتقدمة. على أن ينص على ذلك بلسانين إنجليزى وعربى مبين فى دستورى الدولتين. ثانيا: الشبهات الفقهية في ما يتعلق بشرعية الحكومة الحالية: لعلنا بوصفنا مسلمين مطالبون إن تنازعنا فى شيء أن نرده إلى الله والرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فإن لم نستبن حكم الله فى الأمر المتنازع عليه فلنحيله لمن بوسعهم استنباط الحكم من العلماء. فهل الحكومة والمعارضة فعلتا ذلك فى تنازعهما على السلطة؟ دعونا بداية نستعرض نقاط النزاع عسى أن تعين علماءنا الأجلاء فى استنباط حكم الله في ما يتعلق بشرعية الحكومة ويمكن تلخيصها فى الآتى: 1- فى الثلاثين من يونيو1989م، استولت قيادة الإنقاذ على السلطة بقوة «الضراع».. فهل الشرع الحنيف يبيح الاستيلاء على السلطة بقوة «الضراع»؟ 2- إن كانت الإجابة بالإيجاب - أى إن كان الشرع يبيح الاستيلاء على السلطة بقوة «الضراع»- فهل هى إباحة مطلقة أم مشروطة؟ وهل تلك الشروط هى فقط إقامة الحدود من جلد وقطع وقطع من خلاف وغيرها مما عاد يبشرنا به السيد رئيس الجمهورية فى العديد من المناسبات، أم إن هنالك شروطا أخرى؟ وما هى تلك الشروط. 3- هل تمكنت الحكومة القائمة على مدى نيف وعشرين عاما من الوفاء بتلك الشروط؟ إن كانت الإجابة بالإيجاب فلله الحمد والمنة، وحينها سنتعهد بتجديد بيعة فى أعناقنا تلزمنا ببذل النصيحة للحاكم والسمع والطاعة له فى المنشط والمكره.. ولكنها تلزمه فى ذات الوقت بإقامة الدين كل الدين لا إقامة الحدود فقط وتلزمه كذلك ببسط العدل وبالاجتهاد فى مصالح الأمة كل الأمة لا مصالح حزب أو مجموعة أو طائفة من الأمة. 4- أما وإن كانت الإجابة بلا «لا قدر الله» فهل يتحتم على الحاكم رد أمانة الحكم إلى أهلها استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى الذى يأمرنا بأن نؤدي الأمانات إلى أهلها؟ 5- ومن هم «أهلها» الذين يجب رد أمانة الحكم إليهم؟ أهى الحكومة التى كانت قائمة قبل مجيء الإنقاذ فى الثلاثين من يونيو1989م، أم أن «أهلها» هم الشعب؟ أما وإن كان «أهلها» هى الحكومة التى كانت قائمة قبل مجيء الإنقاذ، فإنه ينبغى تكليف السيد الصادق المهدى رئيس الوزراء حينذاك بتشكيل الحكومة على أن يراعى في ذلك الأوزان الحزبية وفقا لما حددتها آخر انتخابات حرة نزيهة وشفافة أجريت حينذاك. الجدير بالذكر أن سيدنا وقدوتنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم، كان قد قام بعد فتح مكة بتسليم مفاتيح الكعبة المشرفة لبنى شيبة، فلقد كانت فى عهدتهم قبل الفتح، وكانوا يتوارثونها كابرا عن كابر وجيلا بعد جيل.. بل وتحدثنا كتب السيرة المطهرة بأن رسولنا الكريم كان قد تلا عند رده «أمانة المفاتيح» لبنى شيبة قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» ولعل فى ورود كلمتى «الأمانة ...والحكم» فى آية واحدة إشارة لطيفة إلى أن أوجب الأمانات بالرد هى أمانة الحكم.. والله أعلم .. أما وإن كان أهلها هم أفراد الشعب السودانى، فهل يمكن الاعتداد بالانتخابات التى أجريت أخيراً بعلاتها، أم إنه يجب إجراء انتخابات مبكرة بديلة، حرة، نزيهة وشفافة؟ ومما يجدر ذكره أن نفراً من أهل المعارضة أعربوا عن استعدادهم التام «للملاعنة»: بأن يقسموا ثلاث مرات أن الانتخابات التى أجريت أخيراً كانت مزورة، والرابعة أن لعنة الله عليهم إن لم يكن قد تم تزويها، على أن يقسم بالمقابل أى من صقور الإنقاذ أو حمائمها ثلاث مرات إنها كانت حرة ونزيهة وشفافة، والرابعة أن لعنة الله عليه إن كانت مزورة. 6- إن كان يجب إجراء انتخابات مبكرة بديلة، حرة، نزيهة وشفافة، ألا يستوجب ذلك تشكيل حكومة انتقالية من غير الحزبيين على وجه السرعة، لتكون أولى مهامها الإعداد للانتخابات المرتقبة؟ وقطعا لا يفوت على فطنة القارئ الكريم إننا رأينا تشكيلها من غير الحزبيين، ضمانا لنزاهة الانتخابات ونأياً بها عن شبهات التزوير. 7- هل قامت الحكومة بواجباتها تجاه الرعية خير قيام؟ «يمكن للعلماء الأفاضل الذين يتم التوافق عليهم تحديد تلك الواجبات». وهل بسطت العدل لدرجة يستطيع معها أى من رموزها أن ينوم آمنا تحت شجرة كما فعل عمر بن الخطاب، حتى قيل له عدلت فأمنت فنمت؟ أو لدرجة حتى قريبة من ذلك؟ 8- إن كانت الإجابة بالإيجاب فلله الحمد والمنة، وللحاكم منا استدامة السمع والطاعة.. لكن إن كانت الإجابة بلا - لا قدر الله - فهل يجب على الحاكم أن يتنحى طواعية ومن تلقاء نفسه ومتى؟ الآن؟ أم بعد ثلاث سنوات؟ أم بعد نيف وعشرين عاما أخرى؟ 9- وإن كان يجب عليه أن يتنحى طواعية الآن ولكنه لم يفعل، هل يوجب الشرع تنحيته بثورة قوامها اللسان، أم بانتفاضة القلوب أضعف الإيمان؟ وكما أوردنا فى مقدمة هذا المقال فإنه يقع على عاتق الفقهاء والعلماء الأجلاء دحض الشبهات القانونية والفقهية التى أثرناها أو تعضيدها، إلا إنه يقع أيضا على عاتق السيد رئيس الجمهورية تدبر تلك الشبهات، وأن يستفتي قلبه حولها، وإن أفتته البطانة وأفتته وأفتته... وإن أفتاه الناس وأفتوه وأفتوه. ويقينى إنه وطالما استطاع السيد رئيس الجمهورية أن يتخذ قرارا صعبا فى الثلاثين من يونيو 1989م بالاستيلاء على «الأمانة»، فبوسعه أيضاً أن يتخذ العديد من القرارات الصعبة فى مارس الجارى أو أبريل القادم.. أهمها وعلى الإطلاق رد «الأمانة» إلى أهلها. ألا قد بلغت اللهم فاشهد. [email protected]