اموال الزكاة اكثر الاموال شرعية، فهى تستمد شرعيتها من أوامر ربانية استناداً الى نصوص قرآنية كثيرة وتفصيلات السنة النبوية الشريفة. وهى بذلك تعتبر أكثر الأموال قدسية لارتباطها بفريضة من فرائض الاسلام واركانه الخمسة المعروفة، بيد أنها تمثل الركن الاقتصادى الاول والضمان الاجتماعى الكبير للمجتمع. وقد أثبتت التطبيقات العملية فى صدر الاسلام قمة التشدد فى توجيه اموال الزكاة فى مصارفها الشرعية ومظان تفريقها على مستحقيها، حتى أن احدهم جاء الى الرسول الكريم يطلب الزكاة، فقال له صلى الله عليه وسلم في ما معناه انتظر حتى تأتينا الصدقة، فإن كنت مستحقا أعطيناك. وهذا الموقف يشير الى ان هناك اجراءات ادارية وتحريات ميدانية تجرى لاثبات الحقوق فى اخذ اموال الزكاة او نفيها حتى لا تكون عرضة لاهواء البشر وعبثيات الايام واجتراءات الحكام والنافذين. بل أن الله سبحانه وتعالى لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى امر مصارف الزكاة حتى قسمها بنفسه كما ورد فى الآية «60» من سورة التوبة «إنما الصدقات للفقراء والمساكين». والملاحظ ان هناك العديد من الكتابات التى نشرت فى مختلف الصحف السودانية والتى اتهمت فيها ادارة الزكاة باخفاقات واضحة المعالم فى صرف الزكاة عضدت بالمستندات والوثائق المؤيدة لها، ولم تجد الاهتمام المأمول فى دولة «المشروع الحضارى»، فقد نشرت الصحف قبل سنوات قضايا تتعلق بالمصروفات الباهظة على سكن الامين العام للديوان، ومصاريف الهواتف المختلفة، وتغيير طلاء عربة أحد القياديين، وسيقت مبررات واهية من قبل ديوان الزكاة لم تقنع احدا ولم تجد نصيرا يرفع عنها الحرج، الامر الذى ادى الى ظهور احداث جديدة تجيء قضية قناة «الضحى» الشهيرة ضمن قائمتها، حيث تلقت الجهة المسؤولة من القناة مبلغ خمسين الف دولار ينطح بعضها بعضا من ديوان الزكاة لتغطية مصروفات التسيير كما ورد فى خطاب رئيس القناة محمد حاتم سليمان الذى دفع به لامين الديوان الذى صادق بالمبلغ على الفور، ولم يعهد به لجهات أخرى مختصة كادارة المصارف او لجنة الفتوى حتى تدعم قراره فى هذه الحالة بالذات، مما يشير الى ضعف المؤسسية واستخدام السلطة التقديرية بطريقة عشوائية، والمعهود فى مجالات صرف الزكاة أن المساهمات التى يقدمها الديوان للجهات الاعتبارية ينبغى أن تذهب لتنفيذ انشطة وبرامج ومشروعات تتصل مباشرة باهداف الديوان، لا أن تصرف على التسيير كالوقود والصيانة والمرتبات وما الى ذلك. ولكن خطاب مدير القناة كان واضحا ولا يحتمل التأويل بأن المبلغ المطلوب سيذهب لمصروفات التسيير، وهذا كان كافيا لاعتذار أمين الزكاة للسيد محمد حاتم بكل بساطة ودون اى حرج او مجاملة، حتى لا يصبح الاحترام لرغبات الذين تربطهم مصالح حزبية او تنظيمية او غيرها اقوى من الالتزام بقطعيات الدين ومحاذيره. ويحضرنى فى هذا الخصوص موقف للشيخ المهل عبد القادر حين كان امينا للزكاة بولاية غرب كردفان آنذاك، حيث كان بينه والوالى تعاون كبير فى تنفيذ المشروعات التي تقع فى دائرة اختصاص الديوان من حفر للآبار والحفائر ومشروعات دعم الفقراء المختلفة. وظن الوالى ان سخاء الرجل غير محدود، فجاءه مرة متمنطقا يد احد مسؤولى المؤسسات، طالبا ان يوفر الديوان مبلغا من المال للرجل لأن مرتبات مؤسسته قد تأخرت، فعاجله المهل بالرد الناجع «اما هذه فلا يا سعادة الوالى» فالصرف على ذلك لا يقع ضمن اولويات برامج ومطلوبات الديوان، الامر الذى اعاد الوالى للحق والصواب، وادرك انه قد اخطأ التقدير والمقادير. وقد نتجت من هذا الموقف تفاهمات جيدة فى المستقبل واحترام كبير بينهما، كانت محصلته مصلحة الفقراء، والمفارقة بين موقف الامين العام وامين ولاية غرب كردفان حينها جد كبيرة، والغريب ان كل ما يحدث من تهريج فى كثير من ممارسات الصرف فى الزكاة يقع تحت مرأى ومسمع قيادة الدولة، ولا يحتاج لكثير عناء للتحقق من صحة ما اوردته كثير من الصحف معضدا بالمستندات التى تثبت الخلل وتوصف مكمن الداء، مما كان جديرا باتخاذ اجراءات عاجلة لتصحيح المسار وتقويم الممارسة، فالله الله ممن يدرى بوجود شبهات ويتغاضى عنها مخافة ان يوثر ذلك على سمعة ومصلحة النظام والتنظيم، فقد كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يستدعى عماله وولاته على الامصار عندما يفد اليه ما يشير الى وجود تجاوزات واخطاء مهما كانت صغيرة او كبيرة، ولا يجنح للتجاوز مخافة سمعة الاسلام والمسلمين، والقصص فى ذلك كثيرة وهادية. وقد ذكر ان الفاروق شوهد وهو يعدو، فقال له على بن ابى طالب اين تذهب يا امير المؤمنين؟ فقال بعير من إبل الصدقة اطلبه، فقال على: لقد أذللت الخلفاء بعدك، فقال: يا ابا الحسن لا تلمنى فوالذى بعث محمداً بالنبوة لو ان عناقا ذهبت بشاطئ الفرات لأُخذ بها عمر يوم القيامة. ولا أحد يعدو الآن خلف الخمسين ألف دولار التى منحت لقناة «الضحى» الفضائية التى تعادل قطيعاً من البعير خرجت ناحية ضحى ابن حاتم، ولا ندرى اى فج سلكت، بل ان الغرض الذى اخرجت من اجله لم يتحقق حتى تاريخ كتابة هذه السطور.. فاين أنت «يا عمر»..!! فمبدأ الشفافية والمساءلة ومحاربة الفساد الذى نادى به رئيس الجمهورية أخيراً لا بد أن يطال الجميع اذا كان هناك فعلا توجه صادق لاحتواء ظواهر الفساد بمختلف إشكاله وألوانه، وخاصة فى أموال الزكاة، لأنها عبادة يتقرب بها الناس لله تعالى، ومن الاجحاف أن تهدر هكذا دون رقيب او حسيب، وهناك من هو أحوج إليها يبحث عن الرغيف ليسد مسغبته.