وأنت منقبض متجهم تشق طريقك راكباً أو راجلاً من صينية كبرى الحرية إلى وسط السوق العربى في عز الظهر، تشعر بالضيق والاشمئزاز والقرف من فوضى المرور وزحمة العبور وتصادم المسارات مضافا إليها كميات الزبالة «بلهجة الاخوة المصريين». وكل هذه المفردات على لوحة المشهد مما صنعت أيدينا لتعطينا جرعة من الإحباط المعطون في بحر الاسى على عاصمة السودان التى غرقت في لجج بحر ضياع الملامح وإندثار جمال الماضى الذى ولى وراح تحت رحمة النزوح الى العاصمة وحدوث الضغط الرهيب على محدودية مرافق ومساحة الخرطوم التى أصبحت كقطب المغنطيس في جذب الريف وحشره فوضوياً في جيوب المدينة دون أدنى استعداد، وبنفس اللامبالاة في إفراغ الريف تدير الدولة عجلة قيادة الاقتصاد، فكانت الكارثة وانتحار الجنيه.. وللأسف نكابر بأن القادم أحلى في معية رياح التمنى والرجاء الكسيح، ومازلنا في انتظار الغد وبلا رصيد في بنك الرؤية والمستقبل المدروس، وهو ما يسمى بالقدرية التى تدير كل تفاصيل حياتنا على مستوى الفرد والدولة ومن القمة الى القاعدة.. وبنفس تفاصيل «حلوة الصدفة البيك جمعتنا» «ولكن دون أن نلاقى صباحنا» ننسج غزل إدارة شأننا العام والخاص، وبمنتهى العفوية والتساهل في إهدار منسق لكنوز مواردنا الطبيعية التى ظلت على رفوف متاحف التاريخ نحكيها ونتداولها جيلاً عن جيل دون أن نمتلك الشجاعة الكافية في تحديد إجابة قاطعة للسؤال المحورى، لماذا انتحر الجنيه وخلانا في حيرة؟ وهل موته قدر أم اختيار؟ وبتطبيق نظرية التحري الجنائى في استدعاء الاجابة على السؤال عنوان المقال، لا بد من تحديد من هو المدعى؟ ومن هو المدعى عليه؟ ومن هم شهود الاتهام؟ ومن هم شهود الدفاع؟ والسلسلة العدلية طويلة، واقتفاء أثرها قد يدخلنا إلى كهوف من التعقيدات والمصطلحات القانونية المنفرة للقارئ، وبالتالى سنكتفى من القانون بجوهره في المرافعة الختامية التى تسبق مرحلة توجيه الاتهام من عدمه. وعلى خلفية أن الفعل عادة ما يسبق ردة الفعل ويمهد لميلادها، نستطيع وباطمئنان أن نخلص إلى حقيقة راسخة كالطود في مسرح أية دولة من دول التخلف التى تسمى احتراما ومجاملة «دول العالم الثالث» أن الإرادة السياسية هى التى تعلو فوق كل الاعتبارات دون مراعاة لاية اعتبارات اخرى، إلا في إطار تقديمها توابل على طبق الافعال والاقوال الملازمة لحركة أخطبوط السياسة الذى يتحرك في كل الاتجاهات التى تمس حياة الناس ومستقبل الامة، وبلا وعى تحت تخدير مسرف من بنج النفاق السياسى وحجب الرؤية بسحابة دخان بخور المصالح الضيقة، وهو ما يسمى في المصطلح العامى «تكسير التلج والذى منو» على حد تعبير دكتور عبد اللطيف البوني. وبمنتهى الواقعية في التحليل الاقتصادى «شاهد الاتهام الاول» نقرأ الافادة في شكل سؤال موضوعى كيف لعملة الجنيه أن تنتحر حزنا على حالها أو خجلا من العملات الاخرى، وهى تتدثر بموارد السودان الغنية لدرجة الإسراف في العرض؟ فلا داعي للاجابة لأن غطاء الافادة لا يستر عورة الواقع من جراء ثقوب رصاص سوء الادارة وغياب الارادة، فانظر حولك هل تجد مبرراً منطقياً لحدوث فجوة في تلبية الطلب الداخلى على زيوت الطعام ودقيق القمح وسلعة السكر وحليب اللبن و.. و.. وأشياء أخرى نتعامل معها باسلوب «جربان يأكل بعينو» في بلد شاسع مترامى الاطراف غنى بموارده وتعدد مناخاته.. ومازال الجرح ينزف والمريض مهدداً بالهبوط الحاد فما العمل؟ والحقيقة التى لا جدال حولها أن مواردنا الكثيرة جداً ما عادت تحول بيننا وبين العوز الذي صار صفة ملازمة للسواد الأعظم من الشعب السودانى.. وحري بنا ان نتأمل ماذا يعنى المؤشر الاقتصادي الذي يقول إن أكثر من 88% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر؟ والفقر المقصود بلغة المنظمات الدولية المتخصصة يقاس بالدولار وبرفقة حزمة من المؤشرات الاخرى المرتبطة بالخدمات الاساسية كالصحة والتعليم والامن، وكل ذلك يقاس على مستوى دخل الفرد الحقيقى وليس النقدى.. والغذاء ليس من بينها لأنه حق بديهى وغير قابل للجدل حوله باعتبار أن أية دولة ليست جديرة بأن تحيا بوصفها دولة في ظل غياب توفير لقمة العيش لمواطنيها، ومن هذه الزاوية الحادة ينظر المجتمع الأول إلى مسرح الدنيا التى على ظهرها تشاركهم العيش فيها شعوب من العالم الآخر، وهو ما يعرف بدول العالم من الثاني وحتى «الطيش» !! وفى زحمة الخواطر تتداعى صورة المشهد الدولي في بعده الانسانى المؤثر الذى يمثل الثغرة التى تتيح مجالاً لتدخل دول الوصايا في شؤون الآخرين الصغار مما سبب كثيراً من الحرج للرأى والضمير الانسانى العالمى، وتلك إذن قصة أخرى يجب أن يكون الدخول الى فصولها عبر بوابة الاجابة على السؤال المطروح وبإلحاح لماذ انتحر الجنيه؟ ومازلنا نحوم حول حمى «بكسر الحاء» الإجابة والاستفهام منتصب كالطود هل انتحر الجنيه السودانى قدراً أم اختياراً؟ ويبدو من الوهلة الاولى أن الاجابة طبيعية عملاً بمنطق إذا عرف السبب بطل العجب!! فالسياسة هي المتهم الاول في جريمة انتحار الجنيه باعتبار أنها هى التى هيأت المسرح ووفرت أدوات الانتحار كلها في ظل تغييب شبه كامل لمنهج ممارسة اقتصادية رشيدة وفاعلة، مما أفقد وزارة المالية قدرة التحكم في قيادة كابينة الاقتصاد بأعلى نسبة من الضبط والربط للتحكم في العادات والسلوك الاستهلاكى للدولة وللمجتمع.. ودونكم خريطة الواردات التى ظلت تدخل «رواكيبنا وأوضنا» دون استئذان، وما السلوك البوبارى الذى أصبح سمة غالبة في مناسبات السودانيين مقارنة بمستوى دخل الأسر المغلوبة على أمرها إلا شهادة إثبات قوية بأن الدولة تركت الحبل على الغارب، مما أربك الواجهات الاقتصادية وأفقدها القدرة على حماية العملة الوطنية التى تدهورت، فانتحرت حزنا مع سبق الاصرار والترصد كما يقول أهل القانون. وغداً ستشرق الشمس ودمتم.