: عن قناعة ويقين تامّين هما نفسيهما قد تشكلا دون وعي كامل منه كان قد ترك حياته كما هي لتصاريف الزمن تفعل بها ما تشاء ، دون تدخل منه أو تضجّر ولم يتدخل وهو يعلم يقينا ً ألا ّ طائل ولاجدوي ، ثم أنه لا يزال يذكر جيدا ً أنه وفي المرة الوحيدة التي حاول أن ينفلت فيها من إسار إهابه السميك ذاك ويتدخل ، كان قد أفسد كل شئ بذلك القدر حسبما يري الآخرون والذي لا يملك تجاهه القوم غير القول بأن صاحبهم لم يترك له بابا ً (يرجعبو) ..!هكذا يجد نفسه وقد أوصد كل باب في الخاطر قد يؤدي لترتيب جديد للأمور ، او وضع لها في نصابها أيضا ً كما إرتأي الآخرون بالطبع إذ أنه يكون عادة قد فعل ما إرتآه صحيحا ً تماما ً ، أو بنسبة معقولة ومرضية تجعله علي أقل تقدير متصالحا ً مع نفسه ، منسجما ً معها . أما أن يضجر أو يبدي بعض التذمّر فذاك فعل يندرج لا محالوو في باب (لزوم مالا يلزم) أو أنه بالتأكيد أمر ببساطة لم يخطر له . هو فقط نسق إلتزمه أو نهجا ً إنتهجه أملته إبتداءً إيحاءات وهواتف لم يكن يملك لها تفسيرا ً ولكنها سرعان ما إنفلتت من عقالها وتنزّلت عليه واقعا ً ، نمت وترعرعت في كنفه بعد أن تعهدها بالرعاية وهاهي الآن ، يكلمها فترد ّ عليه ، يهدهدها فترتخي ، يضاجعها فتستسلم . هو ذا إذن يتحرك وفق مقتضيات الموقف . كان علي إعتقاد راسخ بأن ما يراه هو ضرب من ضروب الإبحار في المجهول، أمعن فيه فخلص الي ما خلص إليه ، سيّما خلق الله تفضح ما وراءها . وهذه الفتاة ..! هل غادرت أقبية القبيلة ؟ أم إنفلتت فإنطلقت الي حيث لا يدري أي طريق تسلك وأي منقلب تنقلب . إنه لا يزال يذكر طفولتها ، بل ولكأنه يراها الآن مرأي العين ماثلة أمامه وهي في غدوّها ورواحها والذي لا يعلمه من أين والي أين ، كان لزاما ً عليه سؤالها ولكه لم يفعل ، ليس خشية منها ولكن خشية من إنفلات ما تبقي من رؤي طوتها الجوانح منه ، كانت تمّت إليه بصلة قرابة وينتميان الي جد ّ واحدولعلّه ولهذا السبب تحديدا ً ، ذهبت الجدة وقبل سنوات خلت حيث أصدرت فرمانها بمفادة أن هذه الصبية يجب ألاّ تخرج عن أن تكون زوجة له فكان أن إستقر في أعماقه وأصبح يقينا ً فجأة ، تماما ً كجدته مع إختلاف نوعي أن 1لك من قبيل الأمر الواجب التنفيذ لا مناص ّ ، او إنه بالجزم أم سبق البتّ فيه . لكنما السنون كانت قد أعملت أيديها في الجميع ، فذهبت الجدة الي حيث لا رجعة وكبرت الصبية بعيدا ًعنه ، بعد أن إضطرته الظروف إضطرارا ً لترك الأهل لفترات تطول وتقصر ، فبقي يجتر ّ ذكريات الماضي ووقائع الحاضر تطحنه . هاهي فتاته تذرع الأرض خطاها اللاهثة ، خلف من تراه فتي أحلامها كان ولا شك كمن يحرث في البحر ..! وتطل ّ الجدة من كوة في سقف رأسه بصوتها المبحوح الذي لا يحطئه أبدا ً هاتفة به في غلظة لم يعهدها : ( قلت لك مرارا ً ولكنك كأصم لا يسمع وأبله لا يعي وهأنتذا تدفعني الي أن ألقي عليك ما قلته مجددا ً: إعلم يا هذا أن الفتاة إذا أحبّت أو وقع في روعها أنها تحب ّ ، تفقد الوقار وتودّع الهدوء حتي إشعار آخر ، ربما كان بفوزها بمن تحب وربما قد لا يكون) . إنه الآن فقط تأكد تماما ً كم كان غرّا ً هو يجهل حقيقة أن ذانيك الوقار والهدوء اللذان كانا أصل بلائه وتعلّقه بها إنما كانا أيضا ً إشعارا ً يكفي لجموع الأغبياء أمثاله بالتنحي عن الطريق وإفساح المجال لمن يفجّر البركان في تلك الكتلة الوقور المكللة بالغر ، ليحيل هدوءها صخبا ً ووقارها سفورا ً يلوي الأعناق وينتزع العيون في الطرقات . ( آخر زمن) ..! عبارة كانت ستنطقها جدته حتما ً لو رأت ما يراه الآن ، إنه يحمد كثيرا ً إذ أن ذلك لم يحدث . غريب أمر هذا الزمن وأمر الناس فيه ، فما كان مستهجنا ً أصبح مألوفا ً بل ومستحبا ً ، إنه يري كل مظاهر ذاك التحوّل تجسّدت في فتاته هذه ، لعلّها إذن مرآته ، فكل ما كانت ترفضه في الماضي وتراه خروجا ً عن قناعاتها وإنتماء ً سافرا ً لطبقات المحرّمات تحوّل الي أمر مقبول يسنده الواقع وقناعاتها أيضا ً. تلكزه حميته ، فتنتفخ أوداجه ك(تامبيرا ) ، يجمع أطرافه ، يشدّها كمن تهيأ لمعركة محملقا ً في الركب ركب العشيقين المتجه صوبه بإصرار وترصد ، زفرة حرّي وأخري في الطريق أنت من قذف بنفسه في هذا الموقف والناس مواقف ، تماسك يا رجل و(إنكرب) بل تقدم أنت بإتجاه الركب ولا تدعه يقترب نحوك ، هكذا فقط تكون المواقف ، في هذا الوقت كان قد بدأ التحرك بالفعل ، ولكنه تذكّر فجأة ذاك الدرس في سنّي دراسته الأولي عن سرعة اللحاق والإقتراب فتسمّر في مكانه ، مرجيئا ً هذه المواجهة للحظات ، عسي ولعلّ .. ولكن أتتركه الجدة ..؟ هيهات .. عرّضت نفسك للبلا فإستهدف وتهتف به زاجرة ويدور بين الإثنين جدته وهو حوار مغلق غير متكافئ ، ينتهي للاشئ ، كان بإنتهائه واقفا ً بعرض الطريق ك(همبول) ، عندها فقط تحين منه إلتفاتة بإتجاه الركب ، فإذا بالعشيقين وهو وجها ً لوجه وإذا به كتمثال منصوب ، تحدّق فيه الفتاة ، تقترب أكثر ، تلمس يداها ذاك الوجه الجامد وتهتف في إستغراب : - أحمد ..؟! ثم تفيق من دهشتها وتضيف ضاحكة : - عمود كهربا ..! قالتها بتلقائية تي حسبه بعضا ً مما درسته لتوّها ولكنه قابل سخريتها بهمهمات متقطعة كأنها تصدر بالفعل عن تيار كهربائي متردّد . سقطة أخري تجاه محوره ،وإرهاصات تلوح بإنتهائه ، إنها لا تري ثمة ما يستحق . يتساءل : لماذا لا تكون هي كما هو عليه الآن ؟ متجاهلا ً ربما الشق ّ الآخر من المعادلة . منطقيا ً : لماذا لا يكون هو كما هي عليه الآن ؟ ينكفئ الي الداخل ، ينظر الي عتمة سحيقة وفجأة دونما توقع ترتفع يده عاليا ً وتهويّ بصفعة مدوّية علي وجه الفتاة ، لحظات ويفيق بعدها علي جلبة وضوضاء ، وقع حوافر وغبار كثيف ينعقد عاليا ً ويسد ّ عليه الأفق ، يتلفّت يمنة ويسري ، يتأكد ألا جدوي ، يتقيأ إحباطا ً ثم يطلق ساقيه للريح .