ما بعد الانتخابات كان للراحل وردي حديث آخر، اتسم في ذلك الوقت بالكثير من (السخونة) حيث قال فنان إفريقيا الأول في تصريح لصحيفة (فنون) إن فوز المشير عمر البشير بتلك الانتخابات كان متوقعاً، ومما زاد التوقعات أكثر هو انسحاب بعض مرشحي الرئاسة عن سباق الترشح. وأضاف وردي في حديثه: (لو لا انسحاب المرشحين كان من الممكن أن تكون هناك منافسة)، مشيراً إلى أن الأغلبية كانت تعرف أن المؤتمر الوطني سيستمر في حكمه للبلاد، فيما عزا وردي ظهور الفنانين المكثف مع البشير قبل وبعد الانتخابات لأسباب محددة -رفض الإفصاح عنها آنذاك- إلا أنه قال إن الأغلبية تدرك أسبابها، وأردف: (أنا مقتنع تماماً أن 80% من هؤلاء الفنانين لم يصوتوا في الانتخابات لأن معظمهم يفتقر للثقافة السياسية)! (2) ووردي، لم يكن الفنان الوحيد الذي أثار (الجدل) بدعمه للحركة الشعبية في تلك الانتخابات، بل رافقه في الراحل محمود عبد العزيز، والذي يعتبر من أكثر الفنانين الشباب الذين تهافتت عليهم الأحزاب السياسية من أجل نَيْل ودّهم، وضمهم لعضويتها، وذلك للاستفادة من الجماهيرية الطاغية التي كان يحظى بها ذلك الفتى، لكنه -وبرغم ذلك الاهتمام الذي كان يوليه الساسة- كان زاهداً جداً في كل ما يتعلق بالسياسة، لكنه رغماً عن ذلك، أثار جدلاً كبيراً في هذه الجزئية تحديداً، وذلك بعد أن ظهر في أكثر من صورة خلال تدشين الحركة الشعبية لحملتها الانتخابية -المذكورة أعلاه- ذلك الظهور الذي لم يعلِّق محمود عليه بذات الجراءة والشجاعة التي انتهجها وردي، ربما لقناعته الراسخة التي كان يسير عليها والتي تتلخَّص في إبعاد جمهوره تماماً من اهتماماته الشخصية -أو كما قال بعض المقربين منه!.. أخيراً.. انتماء محمود السياسي ظل غير واضح للجميع –إلى وفاته- خصوصاً أنه ظهر في آخر سنواته مرتدياً (الكاكي) ومشاركاً داخل أحد احتفالات الحزب الحاكم! (3) مبدئياً، دعونا نؤكد أن (جدلية) الانتماء السياسي للفنانين في السودان، لم تحظَ بقدرٍ كافٍ من التمحيص والبحث والتدقيق، بحيث صار الاعتماد في قياس مدى انتماء الفنان سياسياً مرهوناً بالحكايات والقصص أكثر من (المعلومات)، الشيء الذي جعل الكثيرين في أوقات سابقة يصنِّفون الفنانين سياسياً بحسب ما يتوفر لهم من حكايات -وليس معلومات- تماماً كما حدث مع الراحل مصطفى سيد أحمد والذي لا زال الكثيرون يختلفون في حقيقة انتمائه للحزب الشيوعي، ذلك الموضوع الذي أثار في أوقاتٍ سابقة جدلاً لا ينتهي، خصوصاً بعد تدخل أطراف عديدة من بينها الأستاذ معاوية حسن والذي فجَّر مفاجأة من العيار الثقيل عبر كتابه (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان)، والذي أكد خلاله بأن مصطفى لم ينضم للحزب الشيوعي إلا عندما شعر بحاجته البالغة لحزب سياسي يأخذ بيده في معاناته مع المرض، وبالتالي يسهل أمر سفره للخارج، ذلك الحديث الذي أثار الآلاف من معجبي مصطفى سيد أحمد والذين رفضوا تماماً مجرد فكرة صبغ فنانهم الأول ب(الانتهازية)، مؤكدين أن مصطفى كان شجاعاً بالقدر الكافي الذي يتيح له أن يكشف عن حزبه السياسي، مطالبين الكاتب في ذلك الوقت بالاعتذار. (4) الفنان الشاب وليد زاكي الدين تحدث-في وقت سابق- عن علاقة الفنانين الشباب بالحزب الحاكم، مؤكداً أن السياسية تلتقي مع الفنانين في كونها (فنّاً كلاميّاً)، مشيراً إلى أن التفاف عدد من الفنانين الشباب حول مفاهيم الحزب الحاكم يعود إلى حرية التفكير والانتماء السياسي لكل فرد، مستشهداً بتاريخ الفن السوداني والذي يحتوي على العديد من الأمثلة في توجه الفنان السياسي عبر أعماله التي يقدمها، واختتم: (الحديث عن السياسة يجب أن يكون في منابر السياسة، ولابد من أن تكون السياسة خلف الإبداع وليس أمامه حتى نقترب من المثالية المطلوبة من الحكام تجاه شعوبهم). (5) على ذات السياق، لم يجد عدد من الفنانين في السودان أية غضاضة في التعبير عن انتماءاتهم السياسية، سواءً كانت مع النظام الحاكم أو ضده، وعن هذا يقول الفنان الشعبي قيقم، والذي اشتهر بلقب (فنان الإنقاذ الأول): (أنا لا أخفي انتمائي للإنقاذ، وأفتخر بأنني تغنيت لها)، وبالمقابل، هنالك فنانون آخرون لا يخفون على الإطلاق اختلافهم التام مع الحزب الحاكم ودعمهم لأحزابٍ سياسية أخرى، بينما يؤكد عدد من المتابعين أن المعارضين للنظام من المبدعين يختارون دوماً (التعبيرات الرمزية) لتحل مكان الجهر، وذلك لأسباب عديدة في مقدمتها سعيهم للحفاظ على جمهورهم من كلا الطرفين. (6) بالمقابل، أسهمت العديد من القضايا والمشاكل المجتمعية والاقتصادية في السودان في إشعال نار (فضول) الكثير من الناس للتنقيب والبحث عن حقيقة انتماء الفنانين سياسياً، ذلك التنقيب الذي يعتمد في الأساس على قياس (رد فعل) الفنان حول تلك القضية، تماماً كما حدث في أزمة (رفع الدعم عن الأدوية الأخيرة)، تلك الأزمة التي دفعت بالكثيرين لتصنيف الفنانين سياسياً بحسب تفاعلهم مع القضية، فيما كان المقياس الرئيسي في ذلك الوقت هو الصفحات الرسمية لأولئك الفنانين داخل مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تم تصنيف عشرات الفنانين ضمن زمرة المؤيدين للحزب الحاكم وذلك بسبب ابتعادهم التام عن التعليق عن تلك القضية أو إبداء الاعتراض حول قرار رفع الدعم والانحياز للمواطن، وأبرز أولئك الفنانين الذين تم تصنيفهم -آنذاك- كان طه سليمان وحسين الصادق وآخرين، فيما تم توزيع البعض الآخر - قاموا بالاعتراض على القرار- على بقية الأحزاب السياسية المعارضة! وبالرغم من أن قياس انتماء الفنان سياسياً بمثل تلك الطريقة أمر (غير دقيق)، إلا أنه ربما يؤثر كثيراً في العلاقة المستقبلية ما بين ذلك الفنان وجمهوره، وذلك ارتكازاً على المثل الشهير: (العيار الما يصيب.. يدوش)! ////////// مصحح/التلب