الجو مشحون بحكايات رعب عن حياة العاصمة الخرطوم، بعضها يطالعه المواطنون عبر شاشات التلفزة الرسمية عن جرائم قتل ونهب وخطف، وبعضها عبر الصحف، وأكثرها رعباً وخطورة تلك التي تتسلل عبر شاشات هواتفهم النقالة عبر تطبيق "الواتس آب"، لأنها تأخذ طابع عدم الموثوقية بل تجد الشائعات ضالتها، ويصدقها أغلب المتلقين. وسط هذا الجو المتوتر المشحون بأقاويل مخيفة تنتزع الطمأنينة من قلب العائلات، اختفت صبية مراهقة صاحبة 16 ربيعا في ظروف غامضة، غاصت في عوالم مظلمة لم تترك خلفها وصية أو أثراً، الصبية تدعى (د) أوعزت لعائلتها قبل خروجها من المنزل – جنوبالخرطوم- بأنها ذاهبة لشراء أغراض من المتجر القريب، ومنذ تلك اللحظة لم تعد ولم يرها أحد. من الوهلة الأولى ظنت الأسرة أنها ذهبت إلى منزل إحدى صديقاتها و، بدا الغياب يطول رويداً رويداً، والخوف أخذ طريقه إلى قلوب ذويها خاصة وأنها في عمر حساس محاط بكثير من المخاطر. انقضى اليوم الأول دون وجود إجابات منطقية لاختفائها بدأت حالة الأسرة تسوء كل ما أجرت ذاكرة أفرادها اختفاءات فتيات سودانيات بطرق مختلفة وأسباب غريبة خاصة الاختفاءات التي حدثت مؤخراً. 2 مُحير أن يختفي الأشخاص بطريقة غامضة دون معرفة ما حدث لهم، ولكن الأسوأ من ذلك أن تنتهي التحريات والتحقيقات إلى جملة أخرى من الأسئلة المفتوحة دون معرفة مصير المختفين، الذين تظل حوادث اختفائهم تمثل إلى اليوم لغزاً محيراً. قصة الصبية المراهقة بدأت أكثر غموضاً من حادثة اختفاء ( بارونة غالاباغوس)، وهي تُعد من أكثر حوادث الاختفاء غموضاَ في التاريخ، "إيلويزة فيربورن" فتاة نمساوية ملقبة ب"بارونة غالاباغوس"- اختفت سنة 1935 في جزيرة فلوريانا النائية الواقعة في أرخبيل غالاباغوس شرق المحيط الهادي. جزيرة فلوريانا ذاع صيتها بعد أن استعمرها زوجان ألمانيان يدعيان فريدريش ريتر ودوره شتراوخ سنة 1929، وعاشا في بيت مصنوع من الحجارة والخشب، وكان هذا الأمر عاملا قوياً لجذب عائلات ألمانية أخرى للعيش في هذه الجزيرة بعيداً عن المدن المكتظة، ورسمت هذه الجزيرة أكثر حوادث الاختفاء غموضاً في التاريخ. 3 البارونة النمساوية و(د) السودانية، اشتركتا في الغموض مرحلياً، بدايات اختفاء (د) كانت شائكة ومعقدة، لجهة انعدام الأدلة والخيوط، مع اختلاف الأمكنة والإمكانات في طرق الملاحقة والبحث والمحققين، عائلة بارونة بالطبع سخرت كل ما هو ممكن للمحققين لكنها لم تحصل على نتيجة مقنعة إلى أن سُجلت في دفاتر التاريخ من أكثر الحوادث غموضاً، رغم العثور لاحقاً على جثتها. بارونة وصلت مع عشيقها الألماني الشاب روبرت فيليبسون، بالإضافة إلى ورودولف لورنز وخادم من الإكوادور إلى هذه الجزيرة سنة 1933. انقطعت أخبار البارونة تماما يوم 27 مارس 1934، إلى أن عثر على جثتها وجثة عشيقها محنطتين بعد عدة أشهر في إحدى الجزر، بعد أن غرقت سفينتهما. المحققون توقعوا أن لورنز قد قتل البارونة وعشيقها وقد ساعده بعض المستوطنين الآخرين في الجزيرة على إخفاء أدلة الجريمة، لكن هذه القضية لا زالت دون تفسير أو نتائج قطعية إلى اليوم. 4 عائلة (د) المشفقة على حياة ابنتها أسرعت بإخطار السلطات المحلية، ما يعرف بإدارة شرطة حماية الأسرة والطفل، الخرطوم، دونت بلاغاً رسمياً، الشرطة دونت بلاغاً مبدئياً وفقاً للمادة 47 التي تتيح لها التحقيق الأولي، تولى التحقيق ضابط من العنصر النسائي برتبة نقيب، لها خبرة في مثل هذه القضايا، نسبة لخطورة الحادثة طلبت صورة للصبية ووزعت نشرة جنائية تحمل أوصاف المختفية على أقسام إدارة حماية الأسرة والطفل وبقية وحدات وأقسام الشرطة الأخرى، من ضمن الوحدات تولت إدارة المباحث الفيدرالية التحقيق بغية فك الغموض، مضت أيام وما زال اللغز محيراً، والتفاصيل غائبة، والمعلومات شحيحة، بالمقابل تطوف الأسرة جميع الأماكن والدور والمرافق التي يتوقع وصول المختفين إليها أحياء أو جثثا، كل ما طافت بمرفق تخرج حائرة، كل ما مضت ليلة زاد الخوف وتضاعف القلق على مصير الصبية، كله يحدث دون الحصول على تفاسير للاختفاء (اللغز). 5 مراصد المباحث وحماية الأسرة تعمل خلف الستار، تقود التحقيق بسرية كاملة حتى لا تندلق معلومة تتلقفها وسائل التواصل الاجتماعي تفشل عملية البحث، بعد أيام بدأت المباحث تتحصل على معلومات شحيحة تشير إلى شاب، يقيم بالقرب من منطقة الصبية المختفية، المعلومات أشارت دون تأكيد إلى أن الشاب على علاقة عاطفية مع الصبية، لكنها بالتأكيد وضعته في دائرتي الاتهام و البحث، لجهة أنها لم تك على خلاف مع أفراد عائلتها أو أصدقائها إلى جانب صحتها العقلية والنفسية، ووضع عائلتها المادي الجيد، أسباب عديدة عضدت السعي خلف الشاب، المُشار إليه، لكن إلى هنا تظل (د) تشارك (البارونة) ذات المصير المجهول. 6 مباحث الفيدرالية، نظمت فريقاً متخصصاً في البحث الجنائي، وحلحلت الجرائم ذات الطوابع الغامضة، الفريق كرس جهده للسعي خلف الشاب، المستهدف، – الأيام تمضي دون جديد – دائماً التحقيق عن حادثة مفتوحة يكون أمراً صعباً أي أن الصبية اختفت دون سبب وبالتالي يعد الأمر مفتوحاً، دون اتهام أو ضالع وراء الحادثة، بالمقابل تعمل فُرق البحث بطرق مفتوحة ودوائر مشرعة على كل الاتجاهات، قبل أن يخرج الشاب من دائرة الاشتباه حصل الفريق على معلومات مهمة، تأكدت معلومة متطابقة تشير إلى اختفاء الشاب أو أخفى نفسه عمداً، ذهب راصد المعلومات إلى أن الاختفاء تزامن مع اختفاء المراهقة، وهنا دخل الشاب في مسرح الحدث بقوة، بدا الفريق أكثر جدية في البحث عنه، تبين أنه وراء اختفاء الصبية (د)، بل تكشفت معلومات عن خطفها لكنها مبدئية تحتاج إلى تدعيم، – يمضي الوقت دون جديد – غير البحث عن الشاب الذي أصبح هدفاً أكثر أهمية، مصير المختفية ما زال مجهولاً وهو الأمر الذي يقلق عائلتها كلما حدثت جريمة طرفها فتاة أو خلل في الأمن، تطرق مسامعهم كثير من الأقاويل والشائعات، في الوقت ذاته تمضي المباحث في الاقتراب من الهدف، وهو الشاب الذي ألقى بنفسه في شبكة المحققين. المعلومات عنه تقول إنه شاب 25 ربيعاً يعمل سمساراً للسيارات في دلالة شهيرة جنوبالخرطوم، لكن معلومات أخرى استقاها الفريق من مواطنين في الحي الذي يقيم فيه المشتبه تقول إنه رقيب بقوات الدعم السريع، مدعمة برؤية بعضهم له وهو يرتدي زي القوات الرسمي في كثير من الأوقات. فريق البحث، جمع أرقام هواتفه طالما أصبح يقترب رويداً رويداً إلى بوابة الدائرة الجنائية بالنسبة للقضية، عمليات البحث أخذت طابع السرعة حتى لا تتسرب إلى المستهدفين، نتائج الاتصالات على أرقامه أفادت بإغلاقها تماماً (أغلق هواتفه)، لم يدخل اليأس في نفوس المحققين بل هذه النتيجة رجحت بقوة ضلوعه في الحادثة، إلى أن وردت معلومة غاية الأهمية تفيد بوجود الشاب في ولاية شمال كردفان، في إحدى مدنها الكبرى، وأخرى أكثر أهمية تقول إنه اختطف الصبية. طار فريق البحث إلى هناك، وبدأ عملية بحث جديدة استعان فيها بمباحث المدينة المعنية، لم يمض وقتاً طويلاً فكان الشاب في قبضة المباحث وكانت المفاجأة أن الصبية برفقته، والأكثر فجائية أنه يحمل (قسيمة زواج مزورة)، وبطاقة رقيب بقوات الدعم السريع، وزياً رسمياً لكنه أقر بأنه لم يتبع لها، وتبين أنه ينتحل صفة قوات الدعم السريع ويوهم مواطني المنطقة بأنه يعمل لديها. 7 المقارنة بين الفتاة النمساوية (البارونة) والمراهقة السودانية أن جريمة الأولى ظلت غامضة كحالة اختفاء لأشهر واستمرت في غموضها المحير كجريمة قتل برفقة عشيقها، بينما بددت مباحث الشرطة السودانية – الفيدرالية- حالة الحيرة والغموض في غضون أيام وعادت بالصبية حية ترزق، وسلمت الأمر للمسار القانوني.