بالأمس القريب ودعنا أستاذنا الحبيب مربي الأجيال والعالم الفذ الذي سطع نجمه على بلاد السودان وأفاض بنوره على العالم أجمع مضيئاً في سماء الفكر ،متلألئ في فضاء الإبداع. بروفسور مالك بدري اسم وقول وفعل، تهادى يافعاً بين ربوع رفاعة وأمدرمان، وجاب شاباً رحاب بيروت ثم جامعات لستر ولندن فحصد من العلم ما حصد فهماً عميقاً ونظراً ثاقباً امتزج بفكره الأصيل وقيمه العالية ونفسه الصافية فكان الميلاد لمسيرة العطاء المهني والإنتاج العلمي المتميز الذي امتد قرابة السبعين عاماً وأينعت ثماره عملاً صالحاً في أرجاء المعمورة. عفوا أستاذي فقد ألجم الحزن قلمي وما فتئ، فلن يوفيك قطرة من فيضك المبارك. ودعناه بالدموع والحزن العميق ودعوات صادقات بعد الرضى بقضاء الله، نحن تلاميذه ومحبوه ومريدوه وجموع الشعب السوداني ومواكب حافظة للعهد من مسلمي دول العالم وخاصة ماليزيا وإندونيسيا وباكستان وحيته التحية الأخيرة منابر مهنية شتى في مؤسسات علم النفس العالمية شهدوا له بالريادة والتميز والإنتاج العلمي الرصين. لن أنسى يومها عندما دخل علينا بروفسور مندور المهدي رحمه الله في قاعة الدراسة بكلية التربية جامعة الخرطوم في مطلع العام 1977م مخاطباً طلاب الدفعة الأولى في علم النفس: أزف إليكم البشرى بقدوم العالم السوداني الجليل مالك بدري عائداً من الجامعات السعودية مستجيباً لنداء الوطن. فأفاض علينا من غزير علمه وسماحة نفسه وجميل خصاله وغرس فينا أصالة الفكر وشغف المعرفة والمثابرة بأسلوبه الرائع السهل الممتنع حاضر البديهة والطرفة، فما أمتع محاضراته وما أثراها … مالك لم يكن أستاذنا فحسب بل صديقاً لتلاميذه وظل ذلك ديدنه معنا عبر السنين ومع طلابه بالجامعات المختلفة. بدأ مسيرته المهنية بالتدريس في الجامعات العربية، السودانية والأجنبية مؤسساً للأقسام العلمية والكليات وعيادات العلاج والإرشاد النفسي. تميز أداؤه المهني بالأصالة والمعاصرة في تناسق وإبداع رائع أثمر مدرسة فكرية رائدة لها خصائصها، ملامحها وقسماتها التي ميزتها عما سواها من أطر بحثية وممارسات مهنية، ففي مجال العلاج النفسي قد ابتدع أساليب علاجية جديدة تقوم على الفهم الإسلامي العميق للنفس البشرية فقدّم اختراقات مشهودة في هذا المجال وثّقتها الدوائر العلمية مما مهد الطريق لقيام كثير من المؤسسات العلاجية والإرشادية حول العالم متبنيه أطروحاته. أما في مجال البحث العلمي فقد تحلى سجله بالنبوغ والعبقرية، فقد نشرت له المجلات المهنية العالمية والإسلامية والعربية أكثر من مائة ورقة علمية كما ألّف ما يربو على الثلاثين كتاباً اكتسبت شهرة عالمية، في مقدمتها (معضلة علماء النفس المسلمين)، (الإسلام والإدمان على الخمر)، (وحكمة الإسلام في تحريم الخمر)، (التفكر: دراسة نفسية إسلامية)، (الإيدز من منظور ثقافي إسلامي) حازت هذه الكتب على ترحيب عالمي واسع تبلو ر في حراك فكر ي شهدته أروقة المؤتمرات والحوارات في أماكن شتى من العالم. كتابه الذي عالج أزمة الإيدز من منظور نفسي إسلامي اعتبره اتحاد الجمعيات الطبية الإسلامية أفضل كتاب لعام 2000 وقد كرمته هذه المؤسسات وغيرها بعشرات الجوائز والأوسمة العلمية الرفيعة. أما في مجال المنظمات الدولية فقد تم اختياره خبيراً لليونسكو مقيماً في مدينة بحر دار الإثيوبية عام 1973م كما تم انتخابه عضواً في لجنة الطب التقليدي برئاسة منظمة الصحة العالمية للأعوام 80 -1984م. وفي عام 1977م اختير أول رئيس للرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين التي اتخذت من ماليزيا مقراً لها ولا ننسى أنه الرئيس المؤسس للجمعية النفسية السودانية. وتتويجاً لأعماله الرائدة ومنهجه الفكري الأصيل فقد تم تأسيس الرابطة العالمية لعلم النفس الإسلامي في عام 2019م (مقرها الولاياتالمتحدة) وانتخب أول رئيس لها اعترافاً بفضله وأبوّته لعلم النفس الإسلامي في العالم أجمع، كما انتخبته عشرات المجلات العلمية المهنية عضواً في مجالس التحرير، منها على سبيل المثال: المجلة البريطانية لعلم النفس والعلاج النفسي ومجلة المسلم المعاصر، وفي حقيقة الأمر يتقاصر المقام عن حصر إنجازات بروف مالك المهنية والعلمية. أما مالك الإنسان فذاك سِفر خالد وسجل حافل بجلال كسبه فهو بطبعه الأصيل وكريم أرومته وسجيته المرسلة نثر الدرر مروءة وشهامة حباً للناس وجبراً للخواطر فاكتساه الجلال وحفه التواضع فهو يسير بين الناس سيرتهم بلا تكلف ولا زيف، طلق المحيا بهي الطلعة، عذب الحديث، صادق الود، دافئ المشاعر، لين الجانب وأميناً ورقيباً لأسرار وحقوق الناس. لله درك أستاذي الجليل تتجلى كنوز المعرفة التي تركت وسيرتك العطرة التي فاضت بنفائس الدرر أعظم شهادة لحياتك فبإذن الله أنت واجدها في السماء راجحة كالجبال الراسية ثواباً وأعظم أجراً. التعزية الحارة لأسرته وطلابه ومحبيه ومريديه وسلام عليك أستاذي مالك في الخالدين. (إنا لله وإنا إليه راجعو ن)