لعل المشهد العام المزري الذي يغطي وجه بلادنا بعد الثورة المسروقة والذي يمكن أن يوصف بأنه ينحدر يومياً نحو الفوضى في كثير من مناحي الحياة لعدم قدرة بعضنا التعاطي مع منحة الحرية بالقدر المطلوب من الاحترام والمسؤولية ولا تقدير التضحيات الجسام والدماء الذكية التي أريقت مهراً للحرية، هذه هي الفوضى التي أضاعت منا ديمقراطيات سابقة جاءت ببذل المهج والأرواح. ورغم ذلك وئدت في المهد، يذكرني هذا المشهد البائس مشهدا مشابها كان بطله المرحوم/ عبد المحمود الحاج صالح رحمه الله النائب العام الأسبق في حكومة الراحل الصادق المهدي عام 1986م وكان محسوباً على حزب الأمة حيث قام بإصدار فتوى قضت بقومية مدينة حلفا الجديدة، أثارت الفتوى جدلاً عنيفاً وقتها ورفضها الأهالي باعتبار أن حلفا مدينة نشأت في ظروف خاصة وهي مخصصة لتوطين عدد خمسين ألف أسرة هجرت من وادي حلفا في ستينات القرن الماضي وما ستأتي من أجيال، وصدر قانون ملازم لذلك التهجير سمي (قانون تهجير أهالي حلفا) وهو موجود بالنائب العام، هذا القانون يحفظ حقوق المهجرين وجاء أصلاً تقديراً لتضحيات أهالي حلفا الذين هجروا قسراً من مدينتهم العريقة وادي حلفا والتي تختزن تاريخهم ومشاعرهم وآثارهم وحضارتهم، فتوى النائب العام جاءت استجابة للفوضى التي عمت المشهد بعد انتفاضة أبريل 1985م وتحديداً من بعض القبائل التي وفدت على مشروع حلفا كعمالة، إثر تلك الفتوى تحرك وفد كبير من أهالي حلفا برئاسة الأستاذ الراحل/ فكري عبدون وقابل الوفد السيد/ الصادق المهدي رحمه الله رئيس الوزراء في بيته بام درمان، حيث وقف الأستاذ فكري خطيباً ومتحدثاً نيابة عن الوفد واستهل حديثه الموجه لرئيس الوزراء بأن اللقاء الأول بين الأنصار والمهاجرين كان في المدينةالمنورة وهذا هو اللقاء الثاني يتم بينهما في ام درمان في بيت السيد الصادق المهدي الذي يمثل الأنصار بالطبع ووفد حلفا يمثل المهاجرين . استحسن السيد/ الصادق المهدي هذا الاستهلال الجميل والمعبر والعميق واعتبره من بعض ظرف الحلفاويين أصحاب البديهة والنكتة الحاضرة ثم قلّب أمر الفتوى من كل جوانبها التي تحقق مصلحة الجماعة فكان قراره تجميد الفتوى.