من الاسكلا وحلا من الاسكلا وحلا قام من البلد ولّى دمعي للثياب بلا.. تلك المنظومة الشعرية الرائعة التي كتبها ود الرضي على شكل شعر المربعات على نسق أهل البطانة حيث وجدت القصيدة رواجاً قوياً للحد البعيد خاصة وأن من غناها هو ريحانة الحقيبة وعطرها الفواح الحاج محمد أحمد سرور، وأصل الحكاية في الأغنية أنها كُتبت في فتاة جنوبية بارعة الحسن والجمال ذات قوام أبنوسي فارع وجميل اسمها (مليم) وكانت مليم تلك صديقة لعدد كبير من الفنانين والمطربين آنذاك حيث كانت تضفي بهجة ومرحاً كبيرين في الحفلات التي ترتادها نسبة لخفة دمها ومشاركتها مع الكورس في كثير من الأحيان إلى جانب رقصها الاستعراضي الرشيق على كل إيقاعات الحقيبة حتى أصبحت ركناً أساسياً في كل حفل من حفلات الفنانين الكبار . مليم تغادر الخرطوم ودموعها على خديها شاءت الأقدار أن تتزوج مليم من أحد ابناء قبيلتها بجنوب السودان وتذهب لتكملة مراسيم زواجها هناك وتترك الخرطوم وتبتعد عن رفقاء الكلمة والنغم وعباقرة الزمن الجميل مما ترك ذلك في نفسها حزناً عميقاً على وداع العاصمة التي فارقتها ودموعها على خديها لفترات طوال، ولمّا علم الحاج محمد أحمد سرور أن مليم ستغادر البلاد في الصباح الباكر على متن الباخرة المتجهة لجنوب السودان إلى منطقة جبل الرجاف جاء بنفسه وودّعها وهي تبكي ثم قال للشعراء الذين كانوا بمعيته أريد أحدكم أن يكتب شعراً في مغادرة تلك الظبية إلى أرض الجنوب، فأنبرى لذلك الموضوع الشاعر الكبير ود الرضي وقال لسرور اعطني كل أسماء المدن والمحطات التي تمر بها الباخرة، فكتب سرور كل الأماكن ابتداءً من منطقة الاسكلا بالخرطوم حتى منطقة الرجاف مسقط رأس الفتاة ومنطقة الاسكلا بالخرطوم هي المنطقة الواقعة شمال المقرن تجاه الضفة الغربية للنيل الأزرق لذلك ابتدر ود الرضي قصيدته قائلاً (من الاسكلا وحلا – قام من البلد ولّى – دمعي للثياب بلا) ود الرضي يكتب ويبدع قام ود الرضي بكتابة القصيدة مروراً بكل المناطق التي في طريق الباخرة ، ومن الطرائف أن أهالي منطقة (أم جر) جوار الدويم قالوا لود الرضى عاتبين عليك لماذا لم تذكر منطقتنا وهي في خط سير نفس الباخرة فضحك ودالرضي وقال لهم (عاد لا حول لا قوة) دي أنا ما قاصدكم بيها إنتو ذاتكم ناس أم جر.. فضحكوا وقبلوا تحليله وانصرفوا ، عدد من النقاد الفنيين لم يعتبوا على جمال القصيدة وقوة التعابير التي تحملها ولكنهم انتقدوا الكيفية التي كتبت بها القصيدة وقالوا على أنها مصنوعة صناعة بائنة وقال الشاعر الكبير مبارك المغربي إن سرعة النظم واستعجال الموضوع جعل القصيدة بائنة بأنها مصنوعة صناعة مرتجلة وقال إن ذلك الارتجال سرق من القصيدة جمال الأخيلة وعمق المعاني. إلا أن آخرين قالوا بأن القصيدة لوحة إبداعية تعبر عن شكل التمازج الاجتماعي بين الشمال والجنوب متجاوزين مسائل اللون والعرق والدين فمثلما كتب أبوصلاح وعبدالرحمن الريح في حسان المسالمة وحى العرب أيضاً كتب ود الرضي في إحدى حسناوات الجنوب فيما قال آخرون بأن القصيدة عبارة عن رحلة سياحية أدت دورها في تعريف المستمع بمناطق جنوبنا الحبيب وكانت بمثابة جغرافية سياحية تصف وتحدد المناطق المتاخمة للنيل الأبيض بكل وضوح نقد فني قال بعض النقاد الفنيين إن قصيدة من الاسكلا وحلا تعتبر لوحة إبداعية مشابهة للوحة قصيدة (في القولد التقيت بالصديق) التي كانت جغرافيا طبيعة في قصيدة أدبية أدت دورها في التعريف بمناطق ربوع البلاد بصورة رائعة وراسخة للحد البعيد، فالتغني باسم المناطق يحفظ لونيتها التاريخية والجغرافية بصورة أفضل من أن تُدرس بطريقة أكاديمية صرفه، لذلك قالوا إن القصيدة كانت أكبر من توصيل فتاة من منطقة لمنطقة، وبكل سهولة وأريحية عرف المستمع الجلهاك وكاكا وكدوك وتونجا وتركاكا والرجاف …إلخ وذلك من غير حصة جغرافية أو خرائط كنتورية فضلاً على الجماليات الحسية والإيقاعية في القصيدة مثل: (يا كاكا الحبيب طلاك.. وبُعدو الزاد نفوسنا هلاك يا ملوط حليل نزلاك.. ويا زمن الفراق نسلاك) القصيدة كتبها ود الرضي مع قيام الوابور ولحنها وغناها سرور مع وصوله لمنطقة الرجاف في نفس اليوم.