جاء في الأنباء أن السلطة الحاكمة بمكوناتها السياسية والتنفيذية تزمع عقد مؤتمر نظام الحكم في السودان وعلى شرف انعقاده أقف هنا وقفات عابرة عند بعض التجارب السابقة واللاحقة… والسلطنة الزرقاء كانت قائمة على تحالف بين الفونج والعبدلاب وكان السلطان برتكولياً هو الاول في السلطنة وينتمي للفونج ويقيم بسنار عاصمة السلطنة . وكانت قري هي عاصمة مشيخة العبدلاب ثم حولت العاصمة لحلفاية الملوك وكان شيخ مشيخة العبدلاب هو الأول في المشيخة والثاني برتكولياً على مستوى السلطنة الزرقاء التي بلغ عمرها ثلاثمئة وسبعة عشر عاماً وكان النظام الإداري وكيفية تسيير الدولة متفقاً عليه بين الطرفين ويقوم على تسلسل هرمي من القاعدة للقمة… وفي التركية السابقة التي بلغت فترة حكمها أربعة وستين عاماً كان على رأس نظام الحكم في السودان حكمدار يعينه الخديوي الذي يحكم مصر. وقسم السودان إدارياً لعدة مديريات عين على كل منها مدير ومن بين أولئك المديرين كان مدير مديرية الخرطوم في إحدى الدورات في عهد التركية هو السيد أحمد عوض الكريم ابوسن … وفي عهد المهدية كان الامام المهدي هو رجل الدعوة والثورة وتولى رئاسة الدولة لأشهر معدودة قبل وفاته وأصبح رجل الدولة بعده وحاكم السودان هو الخليفة عبد الله التعاشي الذي تولى السلطة لمدة ثلاثة عشر عاماً وكان ساعده الأيمن هو أخوه لأبيه الأمير يعقوب المسؤول عن الجانب التنفيذي والاشراف العام وكان بمثابة رئيس وزراء وهو محل ثقة ومحبة الخليفة وكان الأمير السنوسي أخو الخليفة من جهة أمه هو كاتم الاسرار والقائم بالمهام الخاصة ومنها الحماية الشخصية للخليفة . وكان للدولة بيت مال واهتمام بالجانب العسكري والحربي إستعداداً للدفاع أو تاهباً للهجوم إذا اقتضى الأمر ذلك مع تعيين مناديب من الخليفة في الاقاليم والمناطق المختلفة للقيام بإدارتها بتفويض منه وولاء له… وفي عهد الحكم الثنائي كان الحاكم العام البريطاني على رأس السلطة واول من شغل هذا المنصب هو كتشنر وبعد مغادرته للسودان ونقله وتعيينه مندوباً سامياً لبريطانيا بمصر حل محله في موقع الحاكم العام بالسودان ونجت باشا وثم تعيين سلاطين باشا النمساوي مفتشاً عاماً بحكم إقامته وخبرته الطويلة السابقة في السودان وأخذ يرفع ويخفض وعلى سبيل المثال قام برد الاعتبار للكبابيش وأعاد لهم نحاسهم وكان يلم بما جرى لهم في عهد الخليفة وعين الشيخ علي التوم ناظراً لقبيلة الكبابيش ولصفاته القيادية الفطرية قفز بالقبيلة من قاع الفقر بسبب ما حاق بهم من ظلم إلى قمة الثراء وكان الكبابيش عندما توفى السير علي التوم من أغنى القبائل في السودان. وقام سلاطين بكتابة السيف والنار في السودان وهو كتاب صب فيه جام غضبه على الخليفة عبد الله وعهده … وكان يساعد الحاكم العام في الحكم السكرتير الاداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي ….. الخ واهتموا بالتعليم وفتح المدارس وتوج ذلك بقيام كلية غردون التذكارية وكان المسؤول عن التعليم هو مستر جيمس كري. وعلى رأس كل مديرية تم تعيين مدير بريطاني وفي كل مركز يوجد مفتش بريطاني يعاونه مامور مصري ونائب مامور وعين عدد من السودانيين الذين تلقوا دراستهم بمدرسة الادارة والبوليس نواب مامير منهم من ترقى لدرجات أعلى في السلم الاداري وبقى بعضهم بدون ترقية مثل الشاعر توفيق صالح جبريل صاحب الدهليز وديوان أفق وشفق الذي أحيل للتقاعد عام 1951م وهو نائب ماموردون أن ينال أية ترقية.. وكان عدد عربات الكومر قليلاً في مكاتب الدولة ولذلك كان استعمالها محدوداً وكانت الخيول والبغال والجمال هي وسيلة تحرك الاداريين البريطانيين وغيرهم وذكر الأستاذ حسن نجيلة في كتابه ذكرياته في البادية انه ذهب لديار الكبابيش في عام 1931م عندما نقل إليها لينشئ فيها مدرسة أولية متنقلة وفقاً لتحركات البدويين وقد وصل إليها ضمن مجموعه كان يتقدمها مفتش المركز الذي كان يقوم بجولة ميدانية ووسيلتهم جميعاً في التنقل كانت هي الجمال. وشهد الاستاذ حسن نجيلة بأن مفتش المركز البريطاني عندما يزور ديار الكبابيش كان يجلس مع الناظر الشيخ على التوم واعيان ووجوه القبيلة ويأكل معهم طعامهم (وفي جفنة مايغلق الباب دونها مكللة لحماً مجللة ثردا) ويشرب معهم الشاي الاحمر المكرر الثقيل يتلذذ وكان الاداريون البريطانيون الذين يتم إختيارهم وتعيينهم للعمل في السودان من خريجي جامعة اكسفورد أو جامعة كمبرج وغيرهما ويتركون بيئتهم ويحضروا للعمل في بيئه مختلفة وفي اجواء تكون أحياناً حارة ويؤدون أعمالهم بهمة عالية وقطعاً فيهم بعض المتغطرسين ولك أن تقارن بين من ارتضى ان يستعمل الدواب في تحركاته للقيام بواجبه الرسمي وبين ما يحدث في السودان رغم معاناته الاقتصادية والمعيشية من استعمال لعربات فارهة آخر موديل تكون للكثيرين منهم اكثر من عربة أو عربتين ولايؤدي الكثيرون منهم عملاً مفيداً يذكر . وأهتم البريطانيون بالحكم المحلي وبعد إجارة قانون مارشال في عام 1951م كون بموجبه اربعة وثمانين مجلساً ريفياً في كأفة أرجاء القطر وكان كل مجلس ريفي يعتبر حكومه محلية فعلية على رأسها إداري (ضابط إداري أو مفتش حكومه محلية) ويضم المجلس كتبة ومحاسبين وصراف وخزينة مال تراجع ويقدم لمفتش الحكومة المحلية تقرير في نهاية اليوم يتضمن ما ورد إليها وما صرف منها ويوجد بكل مجلس مكتب تعليم ومكتب صحة ومهندس أو ناظر أشغال و …ألخ وبكل مجلس ريفي مجلس يتم تكوينه بالانتخاب والتعيين ويكون بمثابة برلمان مصغر له قاعة إجتماعات وبكل أسف أصبح الحكم المحلي باهتا ولابد من إعادته لسيرته الأولة مع ضرورة إعادة وتنشيط لجان الخدمات وإعادة سلطات المجالس الريفية ومجالس المدن لانها هي الالصق بالمواطن والاقرب إليه من الحكومة الاتحادية وحكومة الولاية. وأخصص الحلقة القادمة لوقفات تفصيلية عند مؤسسات الحكم السيادية والتنفيذية والتشريعية منذ الاستقلال … وان دارفور الكبرى بولاياتها الخمس شهدت وضعاً إستثنائياً في ظل النظام السابق إذ كان يوجد فيها حاكم إقليم وعدد من الوزراء الاقليميين والمفوضين مع عدد ضخم من الموظفين العاملين معهم مع وجود برلمان إقليمي وكانت مدينة الفاشر هي العاصمة التي تضم حاكم الاقليم وحكومته ووالى شمال دارفور وحكومته ووضع كهذا كان قابلاً لحدوث ازدواجية وثنائية وإحتكاكات بينهما ولكن من حسن الطالع كان حاكم الاقليم وقتئذ هو دكتور التجاني السيسي الاستاذ الجامعي المهذب الذي لم يكن منشغلاً بذاته وتضخيمها وبحكمته حفظ التوازن ولكن من يضمن أن تسلم الجرة من الكسر في المرة القادمة. وبجانب الحكومة الاقليمية كانت يوجد بدارفور خمسة ولاة وخمس حكومات ولائية وخمسة مجالس تشريعية ولائية وعشرات المحليات وعلى رأس كل محلية معتمد مع وجود عشرات المجالس التشريعية الولائيةوكانت الخزينة العامة في ذلك الوقت تدفع ولكن الاوضاع الاقتصادية الآن سيئة. واتفاقية جوبا تلزم الحكومة الاتحادية بدفع سبعمائة وخمسين مليون دولار سنوياً لمدة عشر أعوام وإذ لم يتم توفيرها وأعتبرت ديناً مستحقاً تدفع عندما تتحسن الاحوال المالية فإن هذا سيخلق أزمة تتبعها توترات وهناك حركات مسلحة لم تضع السلاح وقد تجعل تأخير دفع هذا المبلغ ذريعة للتمرد ولو تخيلنا مجرد تخيل ان هذا المبلغ تم توفيره في ظل ظروف الحكومة الاتحادية الاقتصادية السيئة فكيف يوزع بين الولايات وبين النازحيين في المعسكرات واذا اقيمت حكومه اقليمية فهل سيودع هذا المبلغ في خزينتها وتقوم هي بتوزيعه على الحكومات الولائية ومعسكرات النازحيين ام أن الحكومة الاتحادية ستقدمه رأساً للولايات دون تقديمه لوسيط بينهما يتمثل في الحكومة الاقليمية. وعند توزيع المواقع قد تطل أكثر من اربعة وثمانين حركة مسلحة صغيرة تطالب بنصيبها في السلطة. ومن الأوفق تأجيل تعيين حاكم دارفور في الوقت الراهن حتى يتم التوافق في هذا الموضوع على مستوى كافة أقاليم السودان وعندما تتضح الرؤية بقيام حكومه في كل إقليم فهل يتم إلغاء الحكومات الولائية والابقاء على مديري المصالح الحكومية فقط ويكونوا تابعين للوزارات الاقليمية المختصة أم تظل الولايات قائمة بولاتها وحكوماتها ؟ وإذا وعد شخص بتعيينه حاكماً لدارفور في ظل هذه الظروف المعقدة فيمكن حل مشكلته (إذاكانت هذه مشكله)بالبحث له عن موقع أخريكون بديلاً للموقع الذي وعد به لحين حسم موضوع هيكلة الحكم على مستوى القطر كله.