ظل مفهوم الهوية في الدولة السودانية مثار جدل وخلاف يتأرجح عبر تاريخها بين عدة رؤي فمن يقول بعروبة السودان أو انتمائه الأفريقي أو هجيناً بين العرب والنوبة والأفارقة وفي أخذ ورد وتجاذب ظلت وتيرته تعلو وتخفت بين المثقفين وأصحاب الرأي والمهتمين من الكثير من عامة السودانيين كشأن العديد من القضايا المعقدة ودون أن يصل الناس الى حقيقة تجمعهم حول من هم والى أي هوية ينتمون، وكل يدلي بدلوه منهم من يحاول جاهداً تسخير العلم والتاريخ والكسب الشخصي من المعرفة والتنظير مستهدفاً مصلحة الوطن ودون أجندة ليجد مخرجاً لهذه المعضلة التي تعاني منها البلاد بطبيعتها العرقية والجهوية ومحاولة تحديدها، ومنهم من يتحذلق ربما لوجاهة أكاديمية يسعى لها لا أكثر، ومنهم غير مهتم أصلاً ولا يرى في الامر سوى حديث نخب ممتد لا طائل وراءه وهؤلاء هم في رأيي الأكثرية من عامة الشعب وغمار الناس التي يهمها مايجلب الاستقرار للبلاد وتحقيق التنمية والعيش الكريم والتي سوف أخاطب ما يساعد على تحقيق آمال هذه القطاعات الواسعة من الناس من خلال رؤيتي التي أراها نحو مفهوم الهوية السودانية والتي سوف أطرحها في هذا المقال، هنالك أيضاُ المتعصبون للأصول العربية وقد سعوا لذلك بجد واجتهاد ووجدوا ظروفاً سياسية مواتية لهم في حكم البلاد وفرضوا رؤيتهم وأصبحوا لا يرون الا ما يرونه وهؤلاء معروفون امتطوا موجة الدين وادعاء تطبيق الشريعة الإسلامية والانتماء للعروبة ولعبوا بهما وبعقول الناس وتمكنوا من البلاد حيناً من الدهر ونزلوا بها الى ما دون الدولة الوطنية وركزوا على القبلية والعشائرية وبعض رجال الطرق الصوفية والكيانات السلفية وبعض علماء الدين وتحالف السلطة والمال والنفوذ السياسي واغراء بعض الأحزاب الصورية الهلامية التي لا وزن لها ولا مكانة في نظر الشعب اذا حضرت لا تعد واذا غابت لا تفتقد وجعلوها قناعاً لمشاركة سياسية زائفة، وادلجوا الحياة دون وعي في كثير من وجوهها خاصة التعليم ويكفي ما فعلوه في المناهج الدراسية من تشويه لها وتعريب هدفه التعريب في حد ذاته مع الحشو وهدم للاساليب الراسخة في تراث التعليم وربطه بمشروع حكم تعوزه البصيرة والرشد في الاسلمة والتعريب ومحاولة القضاء على تاريخ السودان وخاصة تاريخه السياسي الذي لا دور لهم فيه. وآخر الامر ونتيجة لسياساتهم ومنهجهم في الحكم جلبوا للبلاد حصاراً اقتصادياً وسياسياً إقليميا ًودولياً واصبح السودان دولة منبوذة عالمياً ووصفت بانها دولة مشكلة ومارقة وترعى الإرهاب (Problem State Out Lawry State And Terrorist State ) وعلى وشك ان تصبح دولة فاشلة ومقسمة (Fail State ) لولا ان تداركتنا ثورة الشباب في ديسمبر2018 المجيدة وعناية المولى سبحانه! لقد عادوا بالبلاد القهقري في كل شيء بعد مسيرة حكم فاشل معصوب العينين مع الفساد المؤسس والممنهج والتعالي والشوفينية الفوقية والغلظة والفجاجة السياسية امتد لثلاثين عاما ثم ذاقوا وبال أمرهم! لقد سار موضوع الهوية على نحو من الجدل الذي لا ينتهي او يصل الى نتيجة عبر تاريخ البلاد وخاصة بعد الاستقلال حيث اصبح السودان اكثر عرضة للتعريف بذاته وأين يقف في تحديد هويته على وجه التحديد بحكم وضعه الإقليمي بين افريقيا والعالم العربي وطبيعة شعبه العرقية التي تتوزع بين هذه الانتماءات. وحتى انضمام السودان التلقائي والسريع لعضوية جامعة الدول العربية في عام 1956 عقب الاستقلال مباشرة وباجماع الدول العربية على قبوله عضوا بالجامعة لم يحسم امر الهوية وظل الجدل والخلاف قائما حولها منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. كما لم تترسخ الدعوة للانتماء العربي حينما دخلت مصر والسودان وليبيا في مشروع وحدة عربية بقيادة جمال عبد الناصر في مصر وجعفر نميري في السودان ومعمر القذافي في ليبيا وتنصل السودان من انتمائه الافريقي وانتهج سياسة داخلية وخارجية تعبر عن خطه العربي مع مظاهر تدعم وتبشر لهذا النهج كاستبدال علم البلاد عام 1970 بدلاً من علم الاستقلال ولتتلاءم الوانه مع ألوان أعلام الدول العربية في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن بالوانها الحمراء والبيضاء والسوداء والخضراء تعبيرا عن الصحوة والنهضة العربية كما كانوا يأملون،وحتى في الأناشيد الوطنية التي اطلقها نظام مايو والتي تنضح بالمشاعر العربية ومنها نشيد الشاعر المصري مصطفى عبدالرحمن (امتي يا امة الامجاد والماضي العريق) من خلال راديو ام درمان وتلفزيون السودان. كما لم يسلم التعليم من السير في هذا الاتجاه على عهد وزير تعليم عهد مايو محي الدين صابر في السلم التعليمي الجديد وتعريب المناهج امعاناً في تأكيد هوية السودان العربية، وأخيراً على عهد الإسلاميين واضافةً لما رصدناه عنهم في صدر المقال لا ننسى (مثلث حمدي) الشهير. غير ان كل ذلك الذي شهدته مراحل السودان السياسية التاريخية حول الهوية ذهب مع الريح وبقيت حقيقة السودان ذات التنوع والتعدد (Identity In Diversity ). ان هذا الجدل حول الهوية أراه ممتداً عبر الزمن في غير طائل وكان الناس الذين يتناولون شأنه يتجادلون بسفسطائية جدل (البيضة والدجاجة) المأثور الذي لم يصل الناس فيه الى نهاية والذي يماثله جدلنا القائم هل نحن عرب أم أفارقة أم غير ذلك. سوف أحاول في هذا المقال أن أتخذ منحى آخر في هذه القضية عن قناعه وقد أشار اليه الدكتور حيدر إبراهيم علي مدير مركز الدراسات السودانيه وله آراء مستنيرة حول هذا الموضوع وكنت اتمنى ان يواصل جهده الفكري حول هذا الأمر بصورة متواصلة لترسيخه وله التحية مني عبر هذا المقال. كما تناول موضوع الهوية السودانية من منظور أدبي بعض الشعراء والأدباء السودانيين أصحاب (مدرسة الغابة والصحراء) الأدبية وقد انتجت هذه المدرسة رؤى شعرية وأدبية رائعة عكس البعض منها صوراً من التمزق النفسي والوجداني في تجاذبات الهوية السودانية المفقودة ومحاولة تأطيرها، منهم الشاعر صلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر وآخرون. في خضم ماسبق تناوله حول هذا الموضوع سوف أحاول في ما أكتبه الآن وبوضوح وعقل مفتوح أن أدحض (مفهوم الهوية) ذاتها في السودان وأتجه الى مفهوم آخر اراه صحيحاُ بل ومنطقياُ لواقعنا حينما نتحدث عن من نحن مقارنة لمفهوم الهوية بالنسبة للشعوب التي تستوفي شروطه. ولكي لا أتهم بالتنكر للعروبة أو الأنتماء الافريقي الزنجي والنوبي وقد شكلت هذه العناصر مزيجاً من أعراقنا وحتى هذا الحرف العربي الذي أكتب به وجميعها أكن لها التقدير والعرفان كأعراق وثقافات لها الأثر العميق في حياتنا خاصةً العنصر العربي بتراثه في الثقافة والأدب وبلغته في بيانها وفصاحتها، وهو أطار أعيش داخله، وفي هذا الدين الأسلامي في تعاليمه وتربيته وثقافته التي شكلت وجداني واحيا فيه عقلاً وجسداً وروحاً، وهو واقع عربي إسلامي ساهم في مجمله في تكويننا الثقافي والاجتماعي والديني في السودان بصورة عميقة وتكاد تكون شاملة تأثرت به كل ألوان الطيف داخل مكوناته بصورة او بأخرى حتى تلك التي لا تدين بديانته أو تنتمي لعرقه العربي. يقول علماء الاجتماع ان بالسودان مايتجاوز (الثلاثمائة وثلاث عشرة) مجموعة أو قبيلة مختلفة تجمع بينها اللغة العربية كأداة وحدة (Linga Franca ) كما يقول المصطلح العلمي. أنظر لقبائل جنوب السودان الذي كان جزءاً من هذا الوطن وتتحدث قبائله لغات عديدة يجمع بينها ويوحد خطابها في حياتها اليومية (عربي جوبا ). وقس على ذلك بقية مكونات البلاد غير العربية وكل ذلك مع عوامل أخرى عبر التاريخ بحيث تشكل السودانيون اليوم بلغاتهم وسحناتهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وبيئاتهم فخلقت هذا النسيج المتنوع الذي يسمى السودان! ان تعبير الهوية في السودان هو في رأيي تعبير وهمي (ILLUSIVE ) بالنسبة لنا كسودانيين ظللنا نبحث عنه وأصبحنا أسرى له طوال تاريخ بلادنا الحديث حينما نتحدث عن ذاتنا ومن نكون. هذا الوهم الذي يسمى بالهوية أقل ما يقال عنه انه محدود وقاصر لايستوعب كل مايختص به الانسان السوداني من خصائص وتنوع هي أعمق من أن تحد بجنس او عرق أو لون! فالهوية الخالصة لشعب بعينه تبحث في أصول البشر وأعراقهم ولا تتعدى ذلك وهنالك ما يتقاطع معها ويرفضها في خصائص بعض الشعوب كدولة كندا وسويسرا وغيرهما كمثال وتركز على ما هو أعمق في خصائص مكونات شعوبها ليحدد شخصية الدولة وقوامتها. وبالمقابل اذا تناولنا حالة السودان وقلنا انه بلد عربي ووصلنا الى هذه النتيجة فماذا بعد ذلك؟! واذا قلنا انه بلد افريقي زنجي فماذا بعد ذلك أيضاً؟! أظن أن القارئ الكريم يتفق معي أنه في الحالين اطار محدود ومحطة وصلنا اليها وانتهى الأمر الى هذا الحد الذي يكبل ويحد ما لدينا من آفاق واسعة في صفاتنا وطباعنا وخصائصنا نتصف بها دون غيرنا من الشعوب! ومن المفارقة أن نذكر هنا أن هذين العرقين سواءً العربي او الافريقي نلمس أحياناً سخرية وتهكماً ينالنا من أصحابها الحقيقيين وخاصةً العرب بادعائنا الانتماء لهم وان لم يظهروه لنا ويهمسوا به من وراء ظهورنا وأحياناً جهرةَ خاصةً في أجواء الخصومات السياسية والعداء والخلاف، فأصبحنا والحال هكذا لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء! نحن شعب متعدد الأعراق والاثنيات المختلفة والمتداخلة. المفكر صاحب المرجعية العالمية في الشؤون الافريقية والذي تستعين به كبريات مراكز الدراسات والمنظمات الدولية البروفيسور علي المزروعي أوضح ذلك في منتدى (السودان وافريقيا) والذي انعقد بجامعة الخرطوم في عام 1968 وذلك في ورقة قدمها في هذا المنتدى بعنوان (The Multiple Marginality Of Sudan ) شرح فيه هذا التداخل والاندياح الاثني المزدوج والمؤكد. فخير لنا ان نبحث عن شيء آخر حسبما أرى يعبر عن هذا الواقع بصورة حقيقية، وانا افضل هنا ان نقول (الشخصية السودانية) بدلا من كلمة (الهوية السودانية). فمدلول الشخصية السودانية يعبر عن الخصائص والصفات والتنوع والقيم والمزايا المشتركة وهي اكثر ما تتجلى في السودان وأهله على امتداد تاريخه قبل ما يزيد عن خمسة آلاف عام قبل الميلاد في الممالك القديمة والوسيطة والدولة الحديثة، في ممالك كوش ومروي والممالك المسيحية على ضفاف النيل ثم ممالك الفونج الإسلامية ذات التوجه الإسلامي الزنجي العربي التي انتظمت البلاد في تعايش فريد انتظمت فيه قوانين التجارة ومعاهداتها وحمايتها وتنظيمها بين هذه الممالك فحققت استقرارأ وتعايشأ وازدهارأ امتد لقرون. اذن فنحن حينما نتحدث عن السودان نخاطب هذه الشخصية التي تشكلت بأعراقها وسحناتها وبيئاتها ومعتقداتها عبر العصور وحتى وصول السودان بحدوده المعروفة اليوم وهي التي تجمعنا وتشكل وجودنا ووحدتنا كسودانيين اما الهوية في اطارها المحدود بجنس او عرق بعينه فهي قاصرة المعنى ووهمية الدلالة بالنسبة للسودان بما له من هذه المعاني المتعددة والعميقة في تاريخه الطويل، وهي كلمة مسمومة بالنسبة للسودان الذي نتحدث عنه بتعدده وتنوعه علينا ان نحذرها فهي تخاطب الأعراق والقوميات ولا تفيد واقع بلادنا في شيء، بل هي في اطارها المحدود تعد مناخا صالحا للعنصرية والتباهي البغيض ومدعاة للفرقة والتناحر والخلاف الذي يبدد الطاقات لبناء الوطن. كثيرا ما نسمع اليوم عن السودانيين من يقول في حقهم جميل القول في المدح لهم والثناء عليهم يجري على افواه الشعوب التي يخالطونها وبكثير من الاعجاب وربما الحيرة والدهشة في هذا الانسان السوداني العجيب. ان هذه الشخصية هي نسيج لبعد تاريخي طويل تمثلت في حضارات نشأت على ضفاف النيل قبل الميلاد وبعده من حدود مصر الفرعونية القديمة في بلاد النوبة في الشمال وامتدادا نحو الجنوب بحيث تداخلت وتمازجت عبر مراحل تاريخية حققها المؤرخون وعلماء الآثار. الممالك التي بدأت بدولة كوش ثم كرمة ونبتة ومروي التي بلغت قمة حضارتها باستنباط الكتابة المروية وهو ما عرف بالخط المروي تزامنا مع اللغة الهيلوغروفية في مصر والامهرية في اثيوبيا ثم اتصل تاريخ المنطقة في دخول العرب على مرحلتين قبل الإسلام وبعده ثم الممالك المسيحية والإسلامية ثم حقبة الاتراك العثمانيين الذين اخضعوا السودان لحكمهم وزادوا رقعة البلاد جنوبا وغربا وتشكل السودان بحدوده المعروفة اليوم وبما في ذلك الجنوب الذي انفصل مؤخرا، ثم عهد الثورة المهدية والاثر الكبير الذي احدثته في التمازج والانصهار عبر البلاد كلها، وأخيرا عهد البريطانيين ومظاهر التحديث والمدنية وعلوم العصر والانفتاح على العالم وايجابيات الحضارة الغربية. لقد انفعل البريطانيون بشعب السودان خلال فترة استعمارهم للبلاد ووقفوا كثيرا عند اخلاق هذا الشعب بشجاعته واصالته ونبله وكرمه مما افتقدوه في الشعوب التي استعمروها على امتداد امبراطوريتهم التي كانت لا تغيب عنها الشمس وكتبوا عنه كثيرا مما خلفوه من كتب ورسائل خاصة الاداريون البريطانيون كمفتشي المراكز ومديري المديريات. هذا كوب من عصير التاريخ خلق هذه المنطقة التي تعرف بالسودان افرز هذه الشخصية عبر كيمياء العصور والتجمعات السكانية المنظمة على ضفاف النيل منذ فجر التاريخ وعلاقاتهم وسبل عيشهم التي ارتبطت بهذا النيل العظيم مصدر الزراعة والاستقرار والنماء والسلام الاجتماعي الذي تولدت منه هذه السجايا الحميدة في التسامح والطيبة والمروءة والصدق والعفة والكرم. أيضا ربما تكون هنالك عوامل إضافية بيئية ونفسية من هذه البيئة التاريخية الغنية بمكونات الحضارة تركت هي الأخرى آثارها الإيجابية على هذه الشخصية السودانية وقبل كل شيء فهي في رأيي من نعم المولى سبحانه التي خص السودانيين بها فلنتمسك بها ونشكره على نعمائه جل شأنه. ما تنشغل به النخب السودانية حول الهوية بحثا وتنظيرا مع احترامنا لافرادها وقد وقفنا عندهم في صدر المقال لا يفيد واقع السودان وان اهتدوا لها في ظنهم، وهو في رأيي نوع من المفارقة المضرة بين مرامي البحث ومصالح الشعوب وآخرهم تناولا لموضوعها د.عبدالوهاب الافندي في ورقة قدمها في احد مراكز البحوث بدولة قطر قبل أيام ولا أراها الا كغيرها مما سبقها في عدم الجدوى فامرها غير ذي بال طالما ان موضوع الورقة هو المفهوم الوهمي الذي يسمى (الهوية السودانية). دعونا نهتم بما يفيد هذا الشعب ويوحده نحو غاياته الكبرى في هذه المرحلة الهامة من تاريخه. مديرة صندوق النقد الدولي تحدثت عن بلادنا بعد الثورة وخلال مؤتمر برلين لدعم السودان وقالت (ان السودان بلد الموارد وان الصندوق يوليه اهتماما كبيرا ويعول عليه عالميا)، ان هذا الحديث الكبير من مسؤولة رفيعة عن سياسات العالم النقدية والمالية حول بلادنا يحتم علينا ان نهتم بالمهم واهمه العمل لما يحقق استقرار البلاد ولنحقق آمالنا وامل العالم من حولنا. فهاهي الهند بعد ان رحل عنها الاستعمار البريطاني في وقت متقارب لرحيله عن بلادنا هي الآن اكبر نظام ديموقراطي في العالم قائم على التنوع الكبير والمذهل ولا تعد في رأيي بلدا واحدا بل بلدانا عديدة مجتمعة في بلد واحد مستقر! تستقل القطار لاكثر من أربعين ساعة وسط أراضي مختلفة وبيئات ولغات وديانات وثقافات وداخل القطار شعب هندي متباين ومتصالح لا يربط بينه سوى المواطنة على ارض الهند. بلد بهذه الطبيعة الفسيفسائية حقق السلام والاستقرار والأمان والتقدم واصبح ثالث قوة اقتصادية في العالم، فكيف نعجز نحن هنا في السودان في تحقيق الحد الادنى من ذلك وهو تحقيق السلام والاستقرار وبلادنا في مكوناتها وتعددها تتضاءل كثيرا عن مكونات وتنوع ومساحة الهند! هذه رؤية في مفهوم (الشخصية السودانية) أطرحها في هذا المقال بأسبابها ودوافعها وأراها معبرة عن ذاتنا كسودانيين علينا ان نعلي من شأنها وفق هذا الواقع المتعدد والمتنوع الذي نحيا فيه بدلاً من وهم (الهوية) الذي يفرق ولا يوحد ويدخلنا في كثير من الإشكالات السياسية والاجتماعية والإثنية نحن في غنى عنها فذلك أجدى وأنفع لبلادنا ومستقبلها ولأجيالنا القادمة لتحيا بعيداً عن الحروب والنزاع خاصة بعد المرحلة السياسية التي دخلتها بلادنا الآن بعد هذه الثورة العظيمة التي فجرها الشعب في ديسمبر 2018 والتي تبحث عن مثل هذه المفاهيم كضرورة ملحة لهذه المرحلة من شأنها توحيد الناس والمساعدة على بناء روزنامة سودان الحرية والسلام والوحدة والعدالة والتعايش السلمي والتآخي بين مكوناته للانطلاق نحو مرحلة النهضة والبناء والتطور المنشود الذي تأخر كثيراً في بلادنا ومن أهم ركائزه ابتداءً وقبل كل شيء تحقيق الاستقرار وسيادة القانون (Stability and Rule of Law ) كما أكد على ذلك مهاتير محمد باني نهضة ماليزيا الحديثة. وماليزيا بلاد متعددة الأعراق والتنوع كبلادنا، ملاويون وصينيون وهنود وأعراق آسيوية أخرى نالت استقلالها من الحكم البريطاني عام 1957 أي بعد عام واحد من استقلالنا عام 1956 من حكم البريطانيين أيضاً. فأين نحن من هذه الدولة الآن، لقد حققت الاستقرار والتقدم المذهل والرخاء والعيش الكريم لشعبها لأنها وجدت القيادة الرشيدة والمؤهلة والحكيمة والأمينة التي عرفت كيف توظف هذا التنوع لمصلحة البلاد ووضعت مصلحة شعبها ووطنها فوق مصالحها الخاصة مع التجرد والإخلاص لتلك الغايات النبيلة! علينا الآن ونحن في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة أن نعي جيداً أخطاء الماضي في مسارنا الوطني والسياسي ونستلهم تجارب مثل هذه الدول التي نهضت خاصة بعد هذه الثورة العظيمة التي فجرها وقادها الشباب وقدموا أرواحهم ودماءهم في سبيلها والتي فتحت أمامنا آمالاً عريضة للنهوض فلا تخذلوا هذا الشباب الذي ضحى فتخذلوا أنفسكم وتاريخكم ووطنكم، وربما تكون في رأيي فرصتنا الأخيرة لنؤسس لقاعدة صلبة ومستدامة من الاستقرار السياسي والاستتباب الأمني والرخاء الاقتصادي والاجتماعي وأن ننهي مسلسل هذا الإدمان من الفشل الذي لازم الحقب السياسية الماضية من تاريخ بلادنا وعلى الطبقة الحاكمة الآن ان تعي ذلك جيدا بكل مكوناتها السياسية والعسكرية والأمنية خلال الفترة الانتقالية التي تدير خلالها شؤون البلاد الآن، واخشى ان أقول ان هذه الطبقة الحاكمة المعنية أراها حتى الآن ومما نرصده عنها لم تتغير! واخشى من السؤال هل ما زلنا في ضلالنا القديم ولم نقلب هذه الصفحة ؟ احد الأصدقاء السعوديين وهو احد افراد العائلة المالكة السعودية جمعتني به ظروف طلب العلم وكان يزاملني في الدراسة خلال بعثتي للدراسات العليا بالولاياتالمتحدةالامريكية مطلع ثمانينات القرن الماضي وكنا يوما نتناول الشأن العام في بلداننا، قال لي مشفقاً (انتم لا تعرفون قيمة بلدكم)! رغم قساوة هذه الجملة على نفسي لم أغضب لانه في اعتقادي قال الحقيقة! بلادنا كبيرة وغنية ولا تحتاج للخارج ولا لأي جهة فقط تحتاج لمن يلتف حوله الناس من القادة الحقيقيين وفي توافق وطني واستقرار وسيادة حكم القانون لتتفجر الطاقات لتحقيق النهضة! هكذا فعلت بعض الشعوب الفقيرة والضعيفة والمطحونة فنهضت، وحديثي السابق حول الهندوماليزيا خير مثال! في رأيي أن العالم الآن يتشكل نحو شيء جديد أبرز معالمه اعتماد قوة الدولة وبناء أدوات هذه القوة وأولوية المصلحة الوطنية للبلاد وهي فرضية السياسة العالمية القادمة وبعد أن وصل هذا العالم لطريق مسدود وتهاوت نظرياته السياسية واستنفدت أغراضها عبر تاريخها من اشتراكية ورأسمالية وحتى هذه العولمة الأخيرة في قاموسهم التي بدأوا الآن يغضون الطرف عنها مما يتطلب منا التركيز على دولة الوطن القوية الحرة التي تبني نفسها وتعتمد على مواردها وامكانيات شعبها وتحذر ماهو قادم من خلال مكونات هذه (الشخصية السودانية) التي أنادي بها ومراعاة هذا التنوع الذي يشكل طبيعة بلادنا باحترامه وحسن ادارته. ومما يعزز هذه الفرضية التي أراها قادمة في السياسة الدولية من اعتماد القوة وتقديم مصلحة الوطن ما ذكره رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية السابق (دونالد ترمب) وبلاده أكبر قوة عالمية ومؤثرة في السياسة العالمية حين قال بوضوح تام (من لم يستطع حماية نفسه فعليه أن يدفع لقوة أكبر لتحميه)! وفي تأكيده لتقديم مصلحة الوطن قال (America first (أي أمريكا أولاً وهي الأنانية الدولية القادمة والتي لا تعرف سوى مصالحها والتي بشر بها هذا الرئيس اليميني المتطرف. الصراع العالمي القادم وعلى ضوء هذه المعطيات ميدانه الاقتصاد وأداته القوة ولا يعرف الرحمة وينطوي على قدر كبير من الأنانية وحماية الذات فلنستعد لكل ذلك! هذه رؤية أقدمها في تواضع لاتخلو من العمق الأستراتيجي والفلسفي حسبما أرى وهي دعوة في سبيل الوطن للمثقفين وأصحاب الرأي في بلادنا وهي تعيش ظرفاً دقيقاً من تاريخها وبعد هذه الثورة العظيمة التي فجرها الشعب بقيادة شبابه بعبقرية ثورية ملهمة نالت اعجاب العالم وقدم من أجلها التضحيات الجسام لتناول هذا الموضوع بالبصيرة والعقل المفتوح وإعمال قدر من الفلسفة في عقولنا وتفكيرنا، فالفلسفة هي اقتراب من الحكمة والحكمة حفل بها القرآن الكريم في بعض آياته وخصها بسورة في محكم تنزيله وهي (سورة لقمان) ولقمان لم يكن رسولاً او نبياً بل رجل اختصه الله بالحكمة وهي التي أمر المولى سبحانه رسوله الكريم بالدعوة لسبيله من خلالها.