التنمية البشرية هي مفتاح التقدم، وأي أمة تضع تعليم أبنائها على رأس أولوياتها، وتحرص على ترقية طاقاتهم الذهنية وقدراتهم والعلمية والإبداعية؛ فستكون مؤهلة لإنتاج الفكرة والمعلومة والرؤية المؤثرة والداعمة للنشاط الإنتاجي في مختلف القطاعات، وما النهضة الحضارية إلا انعكاس لمدى قدرة الإنسان على التفكير وتوليد الأفكار المؤدية إلى تسريع الإنجاز ومضاعفته بأقل تكلفة، ودون إرهاق لخزينة الدولة. ويعدُّ الاهتمام بالموارد البشرية، وبوسائل تنميتها، وبتهيئة بيئة مُحفِّزة لها على الإنتاج والإبداع والابتكار؛ هدفًا أساسيًّا للدول. وإن تحقق ذلك؛ ستنخفض حتمًا معدلات الهجرة إلى الخارج، وهذا ما افتقدناه خلال السنوات الأخيرة، ولذلك بدأت أعين الكفاءات العلمية، وأصحاب الخبرات المتراكمة، والمهارات النادرة تتجه إلى حيث يمكن أن تحظى بالتقدير، وتتوفر لها إمكانات البحث والتطبيق. مسكين هذا الوطن، يؤهل كوادره: تعليمًا وتدريبًا وابتعاثًا، ثم يتخلَّى عنها لتنفع غيرها، فما من عامل ماهر، أو حامل بكالوريوس أو إجازة عليا، أو باحث؛ إلا ويستحوذ عليه شعور بالإحباط لعجزه عن إفادة وطنه الذي لا يُقدِّر مؤهلاته وكفاءته العلمية والبحثية، ولا يعيرها اهتمامًا، ولا يأبه له سواء هاجر أو بقي متكلسًا داخل عباءة (العطالة المُقنَّعة). فكم من أكاديميين وباحثين يحملون أفكارًا لامعة قابلة للتحويل إلى منتج يفيد الوطن والمواطن، وفي (كنانتهم) مشاريع اقتصادية وصناعية ذات جدوى اقتصادية؛ لكنها لا تجد من يتبناها؛ وتظل مُحبطة لأصحابها.
قدرُنا أن مصيبتنا تكمن في سياسينا وحًكَّامنا، فهم ومعارضوهم كأنهم في سباقات (رالي)، سرعاتٌ عنيفة، وتداخلٌ مجنون في خط السباق، وانحرافات خطرة في المنحنيات، أو يتراكضون وكأنهم في مضمار ترابي لسباق الخيل كالذي في عاصمتنا حيث تكثُر (الحُفَر والشقوق)، فالمهم في مثل هذه السباقات الوصول إلى منصة التتويج مهما كان الثمن ودرجة المخاطر.
التعليم الأكاديمي في سوداننا فَقًد هيبته وسمعته العلمية؛ سيما بعد أن اصطبغت المناهج الدراسية بمقاصد (الأدلجة)، بما يتوافق وأفكار المسؤول التعليمي والتربوي في مرحلة الحُكم المعينة، وبالتالي لم يعرف سُّلَّمنا التعليمي الثبات، ولم تستقر المناهج على مفاهيم تستهدف تأهيل الكادر البشري أكاديميًّا وعلميًّا وتربويًّا.
ولنا أن نتصور حال الوطن حين يفتخر حكامه ب (تصدير) الكفاءات والمهارات إلى دول أخرى دون استفادة من (حصائل) هذا الصادر؛ خاصة من الدول المستوردة التي تستثمر الوارد وتستنفع به مجانًا، وبالطبع لن يجْني الوطن من هجرة أبنائه إلا دريهمات في شكل ضرائب إجبارية على المغترب تتجه إلى خزينة الدولة المصابة دومًا باليبس.
وقد يبدو من المستحيل في ظل (انتطاح)الحكام والساسة، وفي مرحلة اللادولة؛ أن يتوقف نزيف هجرة الكفاءات، أو (فرملة) الشباب متعلمين أو شبه أميين من مخاطر ركوب أمواج المتوسط التي قد تبتلعهم قبل الوصول إلى محطة النهاية، وحتى إن شملتهم عناية الله سبحانه بالنجاة فما هي مؤهلاتهم العلمية وخططهم وخبراتهم للبقاء في الدولة المستضيفة إن كانت لهم خبرات؟
لا حل لمعضلة هجرة الكفاءات إلا بالانتباه إلى المشكلة ومعالجة مسبباتها من جذورها، وذلك بتركيز الاهتمام على الإنسان قبل سيارة السباق أو الحصان، وبتحفيز الإنتاج، وتحسين بيئات التعليم والصحة والأمن، وإنشاء مراكز البحوث والتدريب، وتوفير فرص العمل للشباب بالقطاعين الحكومي والأهلي، وبالتخطيط لإحداث تنمية متوازنة بين الولايات بتخصيص ميزانية مُقدَّرة من ريع ثرواتها ومواردها المحلية لتمويل برامجها وتنفيذ مشروعاتها التي تحقق لها نهضتها، وتحُدُّ من معدلات الهجرة الداخلية من الأرياف إلى العواصم، ومن الهجرة الخارجية إلى الدول الغنية.