من بعيد، بدت ثريات قصر "نارايانهيتى" الملكي في العاصمة كاتامندو ترسم غابة من الضوء مع حلول المساء.. زخّات من المطر لغيمة شاردة من الهملايا تلثم هامات القصر وتحيل التماعات الأضواء للوحة تجريدية، وكأن تحالف الجغرافيا والتاريخ الذي اعتمد شهادة الميلاد الصعب للبلد في هذا الجُزء من العالم قد منحها مهمة تلك الاطلالة المسائية على المبنى والذي ظل مقراً لإقامة العائلة المالكة لمائتين وأربعين عاماً.. تنشط الحركة حول القصر وبضع سيارات فخمة تتهادى للدخول إليه، فالأمسية هي ليلة لم الشمل التي اعتادت الأسرة المالكة تنظيمها لأفرادها كل شهر في بلد لا سقف فيه للخيال والمفارقات، منذ أن وحد الملك نارايان ممالكه الصغيرة عام 1768 ليظهر القطر للوجود متموضعاً بين الهند والصين، موئلاً لشعب يشرب دم الثيران ويحرق جثث الموتى ويسجل في دفاتره الرسمية هويته الهندوسية وينظم يوماً لاحترام الكلاب تقديراً لمؤاخاتها للإنسان وأياماً للقفز بالمظلات من قمة جبل ايفرست الأعلى في العالم في بلاد تحتشد أيضاً بتنوعها الاحيائي والنباتي، وهي أرض الفراشات النادرة وزهرة الأوركيد والنحل البري، بينما تسجل الدفاتر الإقليمية والدولية أنها الأفقر في جنوب آسيا بعد أفغانستان والأقل نمواً عند الاممالمتحدة. تزحف مركبات الحفل المخملي لداخل القصر، حيث ستنطلق أمسية التسامر الملكية، بينما ينتظم زحف من نوع آخر القطاعات والمناطق الغربية للبلاد تقوده قوات حركة التمرد الماوية التي دشنت الحرب الأهلية في مملكة نيبال منذ عام 1996 بهدف إسقاط الملكية، حيث يؤدي الزحفان إلى تغيير شامل لأقدار البلاد وخريطتها السياسية. لم تكن ليلة الأول من يونيو عام 2001 كسابقتها في كاتامندو.. سوف تظل لوقت طويل قادم كما بدت للكثيرين وقتها كابوساً مرعباً.. وقد لا تعرف أبداً الدوافع المباشرة لمجزرة لم تشهد البلاد لها مثيلاً.. في ليلة لم الشمل الأسرية تلك للعائلة المالكة في نيبال، قام ولي العهد الأمير دبيندرا (29 عاماً) مستخدماً أسلحة رشاشة بالإجهاز على وقتل والده الملك بيرندرا ووالدته الملكة اشواريا وشقيقه الأصغر نيراجان وشقيقته سروتي وخمسة آخرين من العائلة قبل أن يطلق الرصاص على رأسه منتحراً ويهرع به للمستشفى فلم يفق من غيبوبته وفارق الحياة بعد ثلاثة أيام كان خلالها قد نُودِي به ملكاً لملء الفراغ في إجراء استهجنه كثيرون، إذ كيف لقاتل أن يُكافأ بذلك، وهو أمر ضاعف من تدني صورة العائلة المالكة، حيث استقبلت جموع الشعب، والتي فرض عليها حظراً للتجول ليومين قبل ذلك، بالرفض والسخرية. الرواية التي صدرت أولاً لأسباب المجزرة والتي أرجعتها لانفجار آلي لسلاح لم يتسن السيطرة عليه قبل أن تقر لجنة مصغرة شكلها الملك الجديد جيانيندرا شقيق الملك المقتول من رئيس القضاء ورئيس البرلمان بمسؤولية ولي العهد فيها.. وقد حكى شهود عيان مشاهداتهم للحضور وقد ألجمتهم الدهشة تماماً وهم يرون دبيندرا يفعل كل ذلك.. على أن الناس قد ربطوا بين فعلته وما أشاروا إليه من رفض عائلته لخطة زواجه من عشيقته ديفياني رانا حفيدة مهراجا هندي وسليلة أسرة رانا المعروفة في نيبال والتي تعرف عليها في المملكة المتحدة إبان دراسته بكلية ايتون، وروّجت في ذلك عدة نظريات تباينت بين اعتبارات وزنها وطبقتها الاجتماعية تارةً، وتخوف القصر من نفوذ وتأثير هندي محتمل يعقب إكمال الزواج تارةً أخرى، ورفض منجمون في رواية أخرى زواجه في تلك السن، بينما أرجع البعض ذلك لما قالوا إنه تعبير عن رفض ولي العهد لتحول بلاده من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية، ولم تكن نظرية المُؤامرة ببعيدة، فقد اتهمت أجهزة مخابرات قريبة وبعيدة بتنفيذ ما تم، ولم يسلم الملك الجديد من الاتهام، وتم ربط ذلك بعدم مشاركته في ليلة لم الشمل ووجوده وقتها في منطقة أخرى، وكذلك عدم إصابة أفراد أسرته الذين كانوا حضوراً بالقصر ليلة المجزرة والتي كانت العامل الحاسم في إنهاء الملكية بنيبال، فأفلحت في تسريع الاتفاق في 23 ديسمبر 2007 على إنهاء الحكم الملكي في البلاد الذي استمر لمدة 240 عاماً بعد سنوات من القتال بين قوات الحكومة وقوات التمرد الماوية وأعلنت نيبال جمهورية في 28 مايو 2008 باسم رسمي هو "جمهورية نيبال الديمقراطية الاتحادية" والتي تتولّى رئاستها حالياً السيدة بيديا ديفي بنداري التي كانت قد تولّت من قبل موقع وزير الدفاع وأيضاً البيئة والسكان. … "إننا نشكر سعي بلادكم لتوطيد علاقات التعاون مع نيبال… لن ننسى في صلواتنا أن ندعو لكم بالتوفيق"… قالها الملك جيانيندرا آخر ملوك نيبال بعد تقديمي لأوراق اعتمادي له سفيراً بالنيبال مقيماً بنيودلهي… كان ذهابي إلى هناك بعد مذبحة القصر… ولم يكن من الصعب قراءة أهوالها في وجه الملك المتعب. .."شكراً سيدي.. ستشرق شموس الغد من خلف هذه الجبال لتملأ قلوبكم بالأمان وبلادكم بالازدهار"… دارت الدوائر على الملك جيانيندرا… بعد أن كان الآلاف يقومون بخدمته تم منحه مدة أسبوعين للمغادرة وإخلاء القصر، وانزل العلم الملكي من سارية القصر الذي تم تحويله إلى متحف كما استعيض عن صورته على العملة النيبالية بصورة جبل ايفرست… أما الغمامة الشاردة من الهملايا فلم تنقطع زيارتها وزخات أمطارها على القصر.. ربما لغسل الدماء التي اسالها في تلك الليلة دبيندرا عاشق ديفياني رانا…