:: قبل ثلاث سنوات، عندما أصدرت المفوضية الأوربية قرارها القاضي بحظر الطيران السوداني عن التحليق في فضاء دول الاتحاد الأوربي، قال عبد الحافظ عبد الرحيم الناطق الرسمي باسم هيئة الطيران المدني معلقاً على قرار الحظر - وبالتأكيد مطمئنا الرأي العام - بالنص: (لن تتأثر حركة الطيران السوداني بهذا القرار، لأن شركات الطيران السودانية - أصلاً - لا تسير رحلات إلى الدول الأوربية)..أدهشني هذا التصريح الرسمي، ثم تذكرت قصة (القرد الحرامي)، فتبخرت الدهشة..كان هذا القرد يسرق ثمار الناس على مدار اليوم، ونصحه شيخ الغابة بالكف عن السرقة قبل أن يسخطه دعاء الناس، فسأل الشيخ بمنتهى اللامبالاة : (ما أنا أصلا قرد، يعني السخط ح يقلبني غزال؟)..!! :: واليوم - أي بعد ثلاث سنوات من قرار الحظر ورد فعل المحظور - هذا ما يحدث..بتاريخ 22 أكتوبر الفائت، أخطرت شركة الخطوط الألمانية السلطات السودانية بقرارها القاضي بإيقاف رحلاتها المباشرة إلى السودان اعتباراً من 19 يناير المقبل..(51 سنة)، هي عمر رحلات شركة لوفتهانزا المباشرة بالسودان..أي بعد نصف قرن من خدمة أفراد شعبنا وأفراد شعوب الدول المجاورة، يتأسف هارتموت فولتس المدير العام لفرع لوفتهانزا بالسودان ويعتذر - مكرها- عن تسيير الرحلات المباشرة من فرانكفورت إلى الخرطوم، وذلك لعجزها عن مجابهة تكاليف التشغيل ثم لعجزها عن تحويل أموالها بالدولار غير الأسود، أي (لأسباب اقتصادية)، أو كما وصفتها الشركة لوسائل الإعلام.! :: وبالمناسبة، رحلات لوفتهانزا هي المباشرة الوحيدة التي تربط عاصمة بلادنا بالعواصم الأوربية، بيد أن رحلات الشركات الأخرى تمر بعواصم ومدائن عربية حتى تصل بك - بعد ساعات تمتد أحيانا إلى يوم أو أكثر - إلى العواصم الأوربية.. ثم، رحلات لوفتهانزا لم تكن فقط تختصر الزمن والمسافة لأبناء السودان بالمهجر، بل كانت تختصر أيضاً تكاليف سفرهم بحيث لا تصرف الأسر وأفرادها طوال ساعات الانتظار بالقاهرة ودبي وغيرها من مطارات (الكونيكشن).. وليست هذه وتلك فقط هي آثار هذا القرار، بل بمكتب لوفتهانزا بالخرطوم عمالة سودانية، وكذلك برحلاتها ومكتبها وعمالتها كانت تساهم هذه الشركة في خزينة البلد (من الضرائب لحد النفايات).! :: المهم، إيقاف شركة طيران أجنبية بحجم لوفتهانزا رحلاتها المباشرة إلى عاصمتنا كان يجب أن يكون حدثاً يشغل عقول ولاة أمر اقتصاد البلد بحيث تعيد تلك العقول النظر في أمر سياساتها وطرائق تعاملها مع شركات الطيران (أجنبية كانت أو وطنية)، ولكن لن يشغل الحدث عقولهم إلا بمقدار تصريح مرتقب فحواه : (لوفتهانزا بتاعت شنو؟، خليها تقيف، نحن ذاتنا ما كنا بنركبها)، أو كما قال عبد الحافظ عامئذ..المهم، لقد تكهن قطبي المهدي قبل أسابيع صادقاً عندما برر زيادة سعر البنزين قائلاً للعربية بالنص: (لن يتأثر الشعب بزيادة سعر البنزين، فالسواد الأعظم منهم يتنقل بالدواب)، لقد صدق..نعم بعد انهيار قطاع الطيران الوطني وتوقف الشركات الأجنبية، لن يلجأ الشعب - في رحلاته الداخلية والخارجية - لغير الدواب الوارد ذكرها في (تبرير قطبي)..ولكن لسد العجز، على وزارة المالية التفكير في تأسيس شركة حكومية لاستيراد (حمير صينية).!