من الخميس إلى الخميس حنتوب للمرة العشرين كتبت عشرات المقالات عن مدرستنا العريق القديمة حنتوب الثانوية وأعجب لما لاتبارح حنتوب الذكرى وقد غدونا شيوخاً وشرقنا في هذه الدنيا الفسيحة وغربنا لما لاتغادر ولاتبارح ذكرانا.. أيكون ذلك لأننا دخلناها ونحن في سن اليفاعة نرفل في ثوب الصبا البديع.. أم يكون ذلك لأنها عجمت منا العود وشكلت ذواتنا وعلمتنا تذوق الجمال ونحن نبصر فيها الجمال مكملاً اخضراراً وازدهاء وحفيفاً وعصافير طليقة وفراشات تهوم وضفافاً تحفها الأشجار والرياحين.. وطير الهدهد بألوانه الزاهية يحلق فيزخم ساحاتها طولاً وعرضاً.. وقد وصفه الشاعر الفذ صلاح أحمد إبراهيم الطالب قبلنا في حنتوب بقوله: "هدهد حط على كتفك ياحنتوب كالحلم نبيلا أنبت الشعر له تاجاً من العزة كالحلم جميلا ساحبا ذيلاً من الريش على مرج قوافيه طويلا وانطوى.. ساهما في النجمة القصوى يناجيها ويدني المستحيلا بترانيم الجوى" تشبع كل من دخلوا حنتوب بحب الجمال وانطبع ذلك فيهم سرمدياً وثبت فيهم وهم يتنقلون في مدارج الحياة والذي لم يعبر عن ذلك شعراً وما أكثر الذين عبروا ركن إلى تذوق الجمال أين كان. كنا آنذاك دون العشرين نرنو إلى أفق بعيد فأحببنا بلادنا وأهل بلادنا: "نتغزى بأمانينا وبالشعب وبالشعر فنشدو ونطيل لاعلينا أيها النيل لقد كانت مخاضة نحن صرعى الحب يا نيل وفي الحب التياع ومضاضة قد عشقنا شعبنا يا نيل هل في عشقنا الشعب غضاضة هكذا كان يعبر عنا صلاح والحديث عن شاعرنا الفذ صلاح أحمد إبراهيم يطول وهو بلاشك من أبرع شعراء بلادنا وأسمقهم قامة في نظم الشعر ويكفي للتدليل على ذلك ما قاله عنه العلامة عبد الطيب وهو يكتب المقدمة لديوانه "نحن الردى": "ولعل صلاحاً رحمه الله تأثر ببعض نظم أستاذه كاتب هذه السطور وذلك إن صح مما أفخر به وأتشرف" هذا أحد أبناء حنتوب.. عجمعت عوده وأخرجته للناس مثلما فعلت بالعبقري محمد عبد الحي والنور عثمان أبكر والزين عمارة وشمس الدين خليفة وعبد الواحد عبد الله وعمر عبد الماجد والأمين بلة وأبو آمنة حامد ومحيي الدين الفاتح وعمر محمود خالد وغيرهم من الذين كتبوا الشعر ولم يخرجوا به للهواء الطلق وأذكر من هؤلاء من أبناء جيلي مولانا عوض الجيد محمد أحمد وقد تعشق الفن والأدب أحمد علي إسماعيل وشرف الدين علي مالك ويعقوب عبد الماجد ومهدي بشرى ومحمد أحمد سالم ومصطفى جمال الدين وبالطبع غيرهم فحنتوب خرجت الآلاف مما يصعب حصرهم. وللبروفيسور أحمد علي إسماعيل تنسب مفردة Hantobian أي خريج حنتوب وله غيرة عظيمة على حنتوب وهو الذي درس بجامعة الخرطوم والجامعات البريطانية ويكثر من عبارة "كيف ياخى دا خريج حنتوب" إذا أراد أن يطرى أحداً. له تحياتي وعرفاني. هذا الزخم الإبداعي فاض علينا على هامش فضاء حنتوب الرحيب وفي داخل فصول الدراسة أمطرنا معلمونا وهم خلاصة قامات تربوية فذة بوابل من علم ووعي ومعارف هي زاد دروبنا المستقبلية في ردهات الحياة.. لم نزد عليها وقد ارتدنا بعد حنتوب الجامعات العريقة ببلادنا وخارجها إلا القليل. تعلمنا حب الرياضة والدقة في الزمن من ناظرنا المربي الكبير هاشم ضيف الله وحب الشعر والأدب على يد أستاذنا الشاعر الفذ الهادي آدم وحب المسرح والدراما على يد أستاذنا حمد النيل الفاضل وحب التشكيل من أساتذتنا عبد الرزاق وحسبو وتعلمنا إتقان الإنجليزية نطقاً وكتابة على يد ستة من أساتذتنا البريطانيين وأذكر أن أحدهم وهو المستر "تينتون" كان في الحصة يبدأ كلما أراد أن يحدثنا بشيء ب"In England..." ثم لما ذهبنا في مقبل أيامنا للدراسة بانجلترا كنا نعرف عنها الكثير.. وكان كل أساتذتنا قدوة لنا في التهذيب والأدب والرقي لا استثني منهم أحداً... ونجت برسوم، محمد سعيد القدال، المغربى، عبد العزيز التوم، شيخ الجاك، حسب الله، إبراهيم الزين صغيرون، محمد الشيخ مدني وبالطبع نظارنا القامات التربوية الكبيرة هاشم ضيف الله وأحمد حسن فضل السيد.. رحم الله منهم من توفى وأطال في عمر الأحياء. ازدحمت سنواتنا التي قضيناها بحنتوب بالمناشط الرياضية والأدبية وبرغم كثرة تلك المناشط لم تؤثر على الدراسة ولا التحصيل الأكاديمي فكل نشاط بوقته... ففي الرياضة كانت هناك كرة القدم وتمارينها يومية في ثلاثة ميادين على شاطئ النيل منجلة تضاهي أعظم ميادين بلادنا وهناك مباراة تقام بصورة ثابتة يوم الأربعاء من كل أسبوع مع أحد فرق أندية ودمدني وهناك كرة السلة وكرة المضرب وكرة اليد وكرة التنس والسباحة والتجديف وألعاب القوى وسباق الضاحية وعلى المسرح تقام الأماسي الشعرية والمسرحية والموسيقية والتباري في الإلقاء العربي والإنجليزي وتتبارى الداخليات في إقامة حفل ساهر وكل داخلية لها مسرح... هكذا كانت حنتوب وهكذا كانت مدارسنا الثانوية ذات يوم... وكم هو بارع "مستر براون" أول ناظر لحنتوب وهو الذي أرسى نظامها فجعل كل تلك المناشط تمضي دون أن يضعف منشط منشطاً آخر.. كل شيء بوقته وزمنه فتلك المناشط مجتمعة تشكل رسالة المدرسة، ولم تكن حنتوب وحدها التي استأثرت بهذا فذات النظام كان يسود في مدرستي خورطقت ووادي سيدنا. أكتب وأكتب عن حنتوب... ولا أظن أن تداعي ذكرياتي عن حنتوب سيقف ذات يوم وفي الكتابة سلوى وترويح وأعلم أن قلة فقط ومعظمهم من زملائنا القدامى هم الذين يقرأون ما أكتب ويجدون فيه بعض إمتاع ومعظم أهل الصحف يطربون للكتابة السياسية ولايقيمون كثير اهتمام بالكتابة الأدبية. وإن تعددت كتاباتي عن حنتوب فلأنها كانت الدوحة التي أظلتنا بظلالها الوارفة وتعهدتنا بالرعاية ونحن دون العشرين... فهل سار بين دوحها الوريف المتنبي بجواده حين أنشد: "غدونا ننفض الأغصان فيها على أعرافها مثل الجمان فسرت وقد حجبن الحر عني وجئن من الضياء بما كفاني والقى الشرق منها في ثيابي دنانيراً تفر من البنان لها ثمر تشير إليك منه بأشربة وقفن بلا أواني وامواه تصل بها حصاها صليل الحلى في أيدي الغواني إذا غنى الحمام الورق فيها أجابته أغاني القيان ومن بالشعب أحوج من حمام إذا غنى وناح إلى البيان وقد يتقارب الوصفان جداً وموصوفاهما متباعدان" ثم يدور الزمان دورته وينفض سامر حنتوب وتغدو بعض أطلال تختزن ذكريات لأيام وأرتال من الناس قل أن يجود بمثلهم الزمان.. ونطل نجتر ونوقد من حين لحين جمر الذكرى لتلك الأيام التي لا أمل أن تعود: "أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل دعاه فلباه قبل الركب والإبل ظللت بين اصيحابي أكفكفه وظل يسفح بين العذر والعذل أشكو النوى ولهم من عبرتي عجب كذاك كنت وما أشكو سوى الكلل وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل". مع تحياتي