“أكره حياة الأضواء والشهرة وأشعر أن الإنزواء هو الذي يناسبني ... لقد أصبحت كاتباً بالصدفة ... كنت قد غادرت أهلي وبلدي صدفة وجئت إلى لندن في شتاء قارس مهيب ... وأحسست بحنين عظيم إلى أهلي ... وكانت الكتابة نوعاً من العزاء ... وجسراً من الذكريات أصل به إلى عشيرتي هناك ... والذي يؤلمني أكثر أن هذا التعويض قد أصبح سبباً في شهرتي ولذلك أشعر أن هذه الشهرة تجلدني .. أعتقد أنني أصبحت كاتباً دون أن أقصد ذلك ولم يحدث قط أن إنتميت إلى إتحاد كتاب أو مجلس أدباء لأن الإنزواء هو الذي يناسبني " الكلمات هذه للأستاذ الأديب الطيب صالح يرحمه الله الذي يعتبر نفسه كاتباً بالصدفه وما أجمل هذه الصدفة .. وقد أعطتنا كاتباً سامقاً وأنيقاً هو الطيب صالح .. وأذكر أنني قرأت أنَّ طالباً قد تأخر في الوصول في الموعد المحدد لمعاينة في كلية الطب، وفقد بالتالي فرصته في تلك الكلية فدخل كلية الآداب ونبغ فيها وواصل رحلة العلم في هذا المجال فكان العالم والباحث الدكتور عون الشريف قاسم –يرحمه الله. الكابتن سبت دودو كان يلعب جناحاً أيسر وذات يوم غاب حارس المرمى في الفريق ووقع الإختيار، صدفة، على كابتن سبت ليملأ الفراغ وليكتشف الجميع، بمن فيهم سبت نفسه، أنه ليس سبت فحسب إنما أسبوع بأكمله كما وصفه الإذاعي العبقري الراحل طه حمدتو . وكانت هناك مناسبة زواج اجتمع لها الناس من أقاصي المدينة . كيف لا والحفل سيحييه فنان كبير ... وعند إنتهاء الفاصل الأول طلب البعض من أحد أبناء الحي ممن اعتاد الغناء للخاصة فقط، أن يغني خلال هذه الاستراحة فاعتذر صاحبنا لأنه كما قال لم يتعود أن يغني في جمع كهذا وثريات وزينة ومايكرفون ... ألحوا عليه فاشترط عليهم أن يتجمعوا حوله ليقيموا عليه ستاراً يقيه نظرات أهل الحي ففعلوا ... غنى صاحبنا .. وما خاب ظن من دعوه للغناء فقد طرب الحضور ... وبدأ مشوار الطرب ... ولم يعد غريباً أن يأتيه من أهل المدينة، وهي مدينة ود مدني التي عرفت بالإبداع والمبدعين، من يدعوه لإقامة حفل ... وذات يوم جاءت بعثة فنيه من الخرطوم واستمع أحد كبار الملحنين لصاحبنا وأعاد الإستماع بعد أن أعجب به اعجاباً كبيراً ثم إصطحبه معه إلى الخرطوم لتبدأ رحلة عبدالعزيز المبارك مع الفن . أما أنا فقد كنت عزمت على الزواج في النصف الثاني من السبعينات ولما كان السفر للسعودية لأداء العمرة وشراء مستلزمات الزواج هو عادة عرسان ذلك الزمان فقد شرعت وقتها في اجراءات السفر ويعلم الله مقدار المعاناة والتعب الذي تعبته في سبيل الحصول على تأشيرة العمرة .. كنت وقتها أعمل في بنك النيلين بمدينة الدويم .. تلك المدينة الأسرة الساحرة بأهلها الودودين الطيبين وبنيلها الأبيض المتوسط والذي كنا نسميه النيل الأبيض المتوسط، تندراً، ونحن نراه يمتد و " ينشر " بلا حدود أيام الخريف والفيضان .. جئت الى الخرطوم من الدويم في اجازة قصيرة لأتابع اجراءات تأشيرة العمرة .. وكان لي صديقان يعملان بالسعودية، في جدة بالتحديد ... استدان كل منهما مائة جنيه مني .. نعم مائة جنيه ... كان الجنيه وقتها يساوي ثمانية ريالات أو تزيد وكان ظني وحسابي أن ضعف هذا المبلغ سيكفي لشراء الشيلة .. لا بأس إذن، في أن أستدين من كل واحد منهما مثل ما كان لي عليه .. فالأيام دول . لم يكن في تخطيطي أو تفكيري البقاء في السعودية بقصد العمل ... بل أنني لم أحمل معي ورقة واحدة تدل على مؤهل أو خبرة وجئت جدة ذات جمعة صباحاً، وجدة وقتها غيرها اليوم .. لا عناوين .. ولا أسماء شوارع .. ولا تليفونات .. يحدها شارع فلسطين شمالاً .. والمصفاة جنوباً .. وكيلو سبعة شرقاً والبحر يحتضنها في شوق ومودة من ناحية الغرب .. ظللت أدور قرابة نصف يوم كامل دون أن ألتقى أياً من الصديقين .. وحينما ألتقيت أحدهما كنت أحوج ما أكون للراحة .. والاستغراق العميق . ثالث أيامي في جدة أديت معاينة لوظيفة في ذات المكان الذي أعمل فيه الآن ومنذ ذلك الوقت .. وأنا في هذا المكان الذي سعدت به كثيراً وإن جاء إرتباطي به صدفة دون تخطيط، فالصدفة عملة ذات وجهين طالما لونت حياتنا بإحساس طيب وجميل .. وكم سلبت ذات الحياة احساسا طيباً وجميلاً .. هل سأل الواحد مِنَّا نفسه ما فعل الصدفة في حياته ؟؟ وهل توخى الواحد منا الصدق في الإجابة ؟ وهل علم أن تأثير الصدفة في حياتنا يجب أن لا يعني غياب التخطيط والترتيب والمتابعة ؟ سألت الأخ عثمان العمير عن الصدفة في حياته بأجابني : " السؤال غريب .. لأنني أنا الصدفة وإبن الصدفة .. تلك حالة تتلبسني دائماً .. فمصادفة أن أنجح .. ومصادفة أن أعشق .. وربما مصادفة سأموت " . وحتما هناك دور للصدفة في حياة الكثيرين من غير من ذكرت . لا داعي للإسترسال . فقد بودي لو يتمعن الكثيرون في دور الصدفة في حياتهم، ويا أخي وصديقي ود الريح أي صدفة هذه التي حملتك محملك هذا فجعلتك كلما لقيتنا أو التقيناك توصينا خيراً بالنمر والأصلة والورل والتمساح .. وماذا يضير الشاة بعد ذبحها ؟! .