كتب الدكتور عبد السلام نور الدين ذات مرة مقالا بمجلة "الثقافة السودانية" في الثمانينيات يعالج عبره فلسفيا الرجعة المرضية للماضي واتخذ من شيخ الطيب السراج نموذجا لانسان يعيش الحاضر بالماضي من خلال ركوبه الخيل في سوق ابروف ومن حرصه على الحديث باللغة العربية الفصحى للعامة ثم امتد دكتور عبد السلام بالمقال واتخذ حقبة الستينيات التي تميزت بالوثبة العامة انموذجا يرتكز عليه مثقفو تلك الحقبة الذين ما زالوا على قيد لاحياة فقال إن الستينيات تعد بؤرة نقية تحج لها الذاكرة. ما دفعني للاستشهاد بما كتبه الفيلسوف عبد السلام نور الدين سؤال طرحه علي شاب صحافي لصالح لقاء اجراه معي لصحيفة "الحياة" السودانية وفحوى السؤال لماذا استدعي الماضي في كتاباتي؟ وكان بامكاني الاقتضاب بالاشارة الى أن الماضي جميل لكنني اسهبت بما يدلل على انتمائي كليا للماضي نهار تتصف شمسه كخير الشموس وترسل لهبا دافئا والموظفون يتجهون ل(بوفيه المدينة) كان يتوسط الخرطوم ويواجه سودانير التي صارت الآن طللا لا يلهم شعراء الجاهلية فمبناها الآن يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، البوفيه يشبه بوفيهات لندن في الصيف و(بلازات) روما في ذات الفصل، والكركدي له زبد ولونان احمر فاقع وابيض ينتسب للنبيذ، والأفندية يدخنون البنسون ويتحدثون بكلمات انجليزية رصينة ويحكون عن اجازاتهم بالقاهرة وتجوالهم في الهايد بارك وكانوا منتجين ولهم ذمة وتأفف من الزلل. (هوي يا ليلى) هكذا كانت العاصمة المثلثة تتصادح بعد صلاة العشاء بعد صلاة العشاء وبعد كامل الشكر والتسليم بنعم الله مباهج على امتداد ما تسعفك به العين من رؤية وبقدر ما يتيح لك الفؤاد من الغناء وكان لحقيبة الفن مذاق غير الذي نسمعه الآن حين يقدمها المبارك ابراهيم بعد شعارها الملهم: جلسن شوف يا حلاتن الناعسات كاحلات فزّر في ناصلاتن قالوا لي جن هوى الحبايب يا الله كان مريخ الأمس اقوى من مريخ اليوم وهلال منزول اكثر عناقا للشباك من الهلال الآن وكان السيد عبد الرحمن سيد الائمة والحسيب النسيب نصير المثقفين، وعلى مدى فترة الاستعمار لم يسجن اكثر من مائتي معتقل منذ عام 1899م حتى رفع العلم في 56م والمناخ نفسه لم يكن يمثل هذه الحرارة وهذا الانبعاث اللاهب الم يكن الشعراء يغنون وقتئذ للربيع؟ ابحث الآن في كل فجج للعاصمة التي ترهلت وامتدت عن شيء يلهمني فلا اجد شيئا غير الاسمنت والسيخ وأبواب الحديد فأعود لاشجار اللبخ امام النيل وأغني (حليل زمن الصبا الماضي).