هذه قراءة لكتابيْ الأديب الأريب الخضر هارون " رسائل في الذكرى والحنين " 2004 م و " رؤى في الفكر و الثقافة و الأدب " 2015 م . بدأت بالاطلاع على " الرسائل " أولاً لثقتي أنها ستكون أخف على النفس من " الرؤى " في ساعات الصيف القائظة هذى و لحسن الطالع كان الأمر كذلك . و عندما عزمت على كتابة بعض السطور احتفاءاً بهذين الكتابين كتبت للخضر : ( فرغت قبل قليل من " الرسائل " و بدأت- بعد تردد - في قراءة كتاب ال " رؤى " وذلك مخافة ألاّ يكون خفيفاً مثل تلك ! لكن -- و لحسن الطالع أيضاً – وجدته لا يقل امتاعاً وفائدة و مؤانسة من " الرسائل " و إنني أنوي - إن شاء الله - أن أستعرضهما في مقال قصير عمّا قريب ) . جاء في كتاب الرسائل : كان استاذنا للتأريخ و نحن في الصف الثأني في أميرية مدني الوسطى ، الأستاذ عباس ، محباً للأدب يطرب للعبارات الراقصة و كنا يومها ندرس تأريخ السودان القديم فطلب مني على فجاءة التعجيل بعبارة تحكي نهاية حكم الفراعنة للسودان فقلت : ( و تنفس النوبة عبير الحرية ) فسرت همهمة استنكار من زملائي كون ذلك أليق بحصة الإنشاء لا التأريخ فقال( لا التعبير الجميل زينة كافة العلوم فلا تثريب على زميلكم ).. و كتبت في حصة الإنشاء قصة استحسنها فقرأها على التلاميذ و كتب على كراستي معلقاً : ( يستشعر القارئ أن لحديثك بقية .. أسلوبك يبشر بملكة في الكتابة ) . و صدق حدس أستاذ التأريخ و لم تخب نبؤته ! فهاهو قلم الخضر يطوّف بنا في حي السجانة – في كتابه " رسائل في الذكرى و الحنين " يصف لنا في لغة أدبية رفيعة جغرافية الحي و أسواقه و طرق مواصلاته الكبيرة و أزقته المتفرعة منها و أبرز رموزه و شخصياته من الأئمة و رجال التعليم و كبار الشعراء و المبدعين الذين عاشوا بين ظهراني الحي – ليس أقلهم اسماعيل حسن و عثمان حسين و محمد عثمان وردي الذي أقام بالحي فترة من الزمن أول أيامه بالعاصمة . على أن أجمل ما في هذا الجزء من الكتاب ذلك الوصف الممتع لمكتب بوستة السجانة الذي كان يوجد في دكان أحد كبار تجار السوق الذي غلب عليه إسم ( دكان البوستة ) و ليس دكان عمنا فلان - و كان أسمه الرسمي ( توكيل بريد السجانة ) وهو عبارة عن نموذج مصغر للبوستة العمومية الرئيسية بالخرطوم يقدم خدمات متكاملة للبريد بأنواعه العادي و المسجل و خدمات التلغراف و الحوالات التلغرافية و الهاتف عبرسنترال كبانية الخرطوم و يتحدث الخضر في هذا الجزء باعجاب ظاهر --و حسرة مبطّنة -- عن درجة الإنضباط و الكفاءة و حسن الإدارة التي كان يتميز بها أداء توكيل البوستة ( الأهلي ) ذاك . و يحتفي بزيارة الفنان وردي للمدرسة : زارنا بمدرسة النور الأولية بالسجانة الفنان المعروف محمد عثمان وردي ( عليه رحمة الله ) الذي كان مدرساً بمدرسة الديم شرق الأولية فطلب منّا أستاذنا أن نسمعه نشيد النيل الذي كناّ قد لحنّاه مجاراة للحن إحدى أغنياته .. فاستحسن وردي ذلك و سأل عن عدد ( الهلالاب ) في الفصل فقام التلاميذ جميعاً إلا أنا حيث كنت ( مريخابياً ) فلم يعجب ذلك أستاذنا الذي كان هلالابياً فعلل مريخيتي بأنني إبن شيخ و لا أدري حتى الآن مغزى ذلك التعليل ! من الأجزاء المحزنة في " رسائل الذكرى و الحنين " تلك الفقرة التي يصف فيها الخضر بأسى بالغ لحظات وفاة والده الشيخ : " تلك السعادة لم تدم فباغتتنا الدنيا من حيث لم نحتسب و أرخى علينا الموت الرهيب سدوله و أخنى بكلكله لا على أمّنا الشابة التي أقعدها الداء نحو عامين على الفراش و لكن على الرجل القوي البنية و الشكيمة معاً : والدي ففي مساء الجمعة الثاني عشر من يونيو عام 1959 م فاضت روح أبي الشيخ إلى بارئها دون علة تذكر سواء حمى لم تقعده حتى من الذهاب إلى عمله و لم تكن ثمة علامة واحدة بأن الموت يتربص بمثل هذا الرجل القوي الذي لم يبلغ الخمسين بعد و هكذا و في لحظة واحدة ألفيتنا يتامى لا حول لهم و لا قوة " . و يقول : " و كنت أبكي في دواخلي طويلاً لعجوز كلما زارتنا دمعت عيناها و رجزت : آماني الدنيا سوت عوسا وسوت في بطونا مغوسا على أنني كنت أجد العزاء و السلوى في كلمات التشجيع : شد حيلك يا أبني الموت يتفضح .. و اليتيم يتربى أما لماذا يمتد عالمنا الصغير جنوباً إلى المايقوما وحدها فلأن أقرباءنا لم يتجاوزوها .. و لا تعجب : فالناس على أيامنا تلك كانوا يحرصون على الاتكاء و الإحتماء – بل ربما التفاخر - بانتمائهم القبلي و لم تكن كلمة ( سوداني ) قد نالت حظها في وجدان الناس . لكن أنظر للخضر - بعد أن توسعت مداركه و أنضجته التجارب و الانتقال في ربوع الوطن - ماذا يقول : " ارتقى وجداننا المحلي الجهوي لينصهر في وعاء أوسع ليصبح جزءاً من الوجدان الذي يمثل ثقافة أهل السودان و اكتسبت كلمة ( سوداني ) في مطالع الستينيات معانيها و رمزيتها الحالية .. فالسرعة التي تشكل بها هذا الوجدان تدل على أن مكوناته كانت موجودة أصلاً " انتقل الكاتب في أوائل الستينيات إلى مدينة ( ود مدني ) و مدرستها الأميرية الوسطى و سكن في حي المزاد وعنده للمدينة و الحي وفاء و حنين كبيران أسمعه يقول : " فهي مدينة عظيمة فيها سماحة و طلاقة و أريحية و شاركنا السكن ناساً من أهل مدني هم السكر كما يقول المغني طيبًة ما رأينا مثلهم قط حتى أصبحنا حتى اليوم كالأسرة الواحدة كأنما تربطنا آصرة دم و رحم .. و لا يزال حي المزاد يجول في الأعماق و لولا مخافة الإثقال على القارئ لذكرت الأسر بيتاً بيتاً " . بقلم صلاح محمد علي