مَدْخَل أَرى ما أُريد من الناس: رغبتَهمْ في الحنينْ إلى أيِّ شيء. تباطؤهم في الذهاب إلى شُغْلِهمْ وسُرْعتَهُمْ في الرجوع إلى أهلهمْ... وحاجتهم للتحيِّةِ عند الصباح... تَخَفَّفْنَا مِنَ الجَمِيْل فَصِرنَا أَثْقَل تدهشنا دائماً قدرتنا على الاحتمال فوق ما نتصوّر أو أقل بقليل، رغم أننا عشنا مع أنفسنا وقتاً طويلاً جداً -عمراً بحاله- إلا أن الاحتمال والألم لا يكونان أبداً كما نتوقعهما. " انقسام الوطن الذي كنا نرسمه دائماً بيسر شديد، لا أعرف كيف يرسمه الأطفال في المدرسة " شهدنا في بلادنا حروباً طويلة وقصيرة ومفاجئة وسريعة. شهدنا انقسام الوطن الذي كنا نرسمه دائماً بيسر شديد، ولا أعرف كيف يرسمه الأطفال في المدرسة بعد ولم أجرّب. وشهدنا حروباً في الوطن بحدوده الجديدة. شهدنا غلاءً فاحشاً وعنتاً في الحياة اليومية. شهدنا انهيار الآمال وازدهار الآلام. اخشوشن كل ما حولنا. اخشوشنت نفوسنا وغَلُظت أرواحنا في عالم يعيش على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. تضاءلت نفوسنا فلم تعد تتسع حتى لنا، لم تعد تتسع إلا لاختيار ضيق من ذكرياتنا وحاضرنا وعلاقاتنا وخياراتنا المستقبلية. تخلصنا من كثير، تخففنا من كلّ ما استطعنا، ألقيناه لننطلق في مسيرة عجلى من التنافس المحموم حول أشياء لسنا متأكدين منها. في هذا العصر الذري لعلنا نقترب من حالة نصبح فيها مجرّد ذرات وحسب. "لِمَنْ نِشْكُو مَآسِيْنَا" كلنا غير راضٍ، كلنا يشكو الآخرين الذين صاروا بائسين، كذابين، أنانيين، استغلاليين، جشعين، تافهين وحسودين. " قيمنا ليست لها فائدة إذا تنازلنا عنها عند كل منعطف وأزمة، وأفكارنا ليست لها قيمة إذا تخلينا عنها كلما شعرنا أنها مكلفة، لا أنها خطأ " لم نتوقف -ونحن نتشاطر الشكوى والمواساة- لنسأل مرة من الآخرون؟ من الآخرون سوانا نحن. نشكو الظلم الذي يرتكبه الآخرون في حقنا وهو مثيل ما نرتكبه في حقهم. لا يمكن لشيء أن يكون عاماً ما لم نفعله جميعاً. أليس كذلك؟ القبح الذي ارتكبه -مع اختلافه عن قبحهم- ينضاف بعضه إلى بعض فيصبح واقعنا هو هذا الشيء الذي لا نطيقه. ما حدث هو أن كلاً منا شارك بشيءٍ ما -لا أحد بريء- فتحوّل الواقع شيئاً فشيئاً إلى هذا القبح الذي نشكوه. ليس للقيم العالية/ ما نؤمن به/ ما ندعيه/ ما نتعلّق به، معنى إذا لم يتحقق في حالة الاختبار الأقصى، عندما يكون التخلي عنها مغرياً. ليس لقيمنا فائدة إذا تنازلنا عنها عند كل منعطف وأزمة. ليس لأفكارنا قيمة إذا تخلينا عنها كلما شعرنا أنها مكلفة، لا أنها خطأ. ليس لذواتنا قيمة إن لم تتجسد ويتحقق وجودها، إذا لم نرفض الإلغاء والتنازل الرخيص. لكننا نفعل. نقول إنها قضمة صغيرة ولن يراها أحد، هزيمة صغيرة نحقق بعدها النصر، زلة صغيرة نقف بعدها على أقدامنا. هذا التصاغر المستمر هو ما يجعلنا صغاراً. نكذب، نتجمل، نلوم الآخرين والبلد، المجتمع والعالم، والظواهر الكونية وربما حتى الحياة التي لم تثبت بعد في المجرات البعيدة. لكن ذلك لا يبرر هزيمتنا واستسلامنا، حياتنا أصبحت لا قيمة لها، لا نذوق طعم إنجاز ولا نجاح؛ لا إنانجازاتنا تكاد تصبح هزائم. مهزومون دائماً، ولا أفق نتطلع إليه لا فجر ولا شروق، فقط عتمة باهرة نكاد نظنها ضوءاً. كنت أتعجب دائماً لماذا ونحن قوم جميلو الخصال والروح، لماذا نستسلم للقبح بسهولة ونصبح ما نحن عليه. لماذا إمكاناتنا وقابلياتنا الرائعة لا تتبرعم وتثمر بمثل سهولة القبح. على المستوى النفسي والاجتماعي والوجداني والسياسي أصبحنا شديدي القبح، لا نطيق حتى أنفسنا دع عنك العالم. الخناق يشتد حولنا، فنهاجر، نتبعثر، نغترب، نَفسَد، نُفسِد، ولا نعرف المخرج من هذا. (نَسْنُدُ الأُفقَ المُهَدَّد بالسُّقُوط) عند خط الأفق تلامس السماء الأرض، إنه إمكان حدوث المستحيل. " من يبادر يتحرر أولاً، يضع عنه العبء والوزر القبيح، يصبح خفيفاً فعلاً، يستفز من حوله، يدفعهم للإيمان ويمنحهم القناعة " رغم أن الأفق -لحسن الحظ ربما- يمضي دائماً أبعد، فإن حركتنا نحوه هي ما يمنحنا القوة للمضي في رحلتنا، إنه قريب جداً، نحو ميل أو يزيد قليلاً. علينا أن نلم شعث نفوسنا المهزومة وأشلاء جمالنا المبعثر وأرواحنا التائهة لنصنع من حياتنا شيئاً قابلاً للاحتمال. علينا أن نجعل حيواتنا تستحق أن نعيشها. فلنتماسك قليلاً ولنمسك بما تبقى لنا نصنع منه حياة جديدة. قبل أن نشكو قبح الآخرين علينا أن نتخلّص من قبحنا الخاص. نبادر بالجميل فنُواجَه بالقبح في البداية، لكن فعلنا هذا ينخر في جدران قبح أولئك الناس ليهدمها في النهاية، ردودهم السخيفة وصفعاتهم ولؤمهم، ربما تكون بداية نهاية القبح وبداية انتصارنا وانتصار الجمال. لا بد أن يبادر أحد -أليس كذلك؟- لأننا إذا انتظرنا طويلاً فإن الخوف أو الجبن سيهزمنا كليةً فلاً يجرؤ أحد على الإطلاق لتجربة الجميل. من يبادر يتحرر أولاً، يضع عنه العبء والوزر القبيح، يصبح خفيفاً فعلاً، يستفز من حوله، يدفعهم للإيمان ويمنحهم القناعة. لكن عليهم وحدهم أن يجدوا اليقين أو المغامرة ليخرجوا إلى النور. تَذْيِيْل وردٌ على الأنقاض: سَتُواصِلُ الأزهارُ مهنتها وتطلعُ في الربيعِ أمامَ أحداقِ البنادقِ غيرَ آبِهَةٍ بأعباءِ الحِصارِ فرّبَما صارت هديَّةَ طِفلةٍ لأبٍ يعودُ، وربَّما وخزتْ بجنديٍّ من الغرباءِ ذاكرةَ الطفولةِ فانحنى يبكي (حسن إبراهيم- شاعر سوري)