يكتب د.حسن الترابي بأسلوب يكاد يخترق الحاجز الذي تمثله اللغة حين تقبع مثل الثعلب الماكر بين الكاتب والقارئ، فاللغة الترابية تنفذ إلى القارئ لتوصل إليه ما يعتمل في نفس الكاتب بكامل أبعاده. ولغة الترابي من ناحية أخرى تبدو عصية على القارئ، بل تحتاج منه إلى حضور ذهني لا يكفي معه الحد الأدنى من الانتباه أثناء القراءة. ويعطي الحاجز في لغة د.الترابي القارئ الانطباع بتقديم فكرة جديدة حية وقوية، ولكن هذا الانطباع يهرب من القارئ إن لم يبذل جهداً شديداً في الحفاظ على المسافة بينه وبين الكاتب. ويترتب على غياب هذا الجهد من قبل القارئ أن لا تنشأ أية علاقة تواصلية حقيقية مع الكاتب، وقد ينضم القارئ إلى (زفة) من يرون أن كتابات الدكتور حسن الترابي (مجرد تأويلات مضللة يوحي بها ثعلب اللغة الماكر، وفق مسافات المراوغة التي يقفزها الكاتب بين الحين والآخر ليثبت للقارئ قدرته الفائقة على الإمساك باللغة). دار الساقي ما علينا، فقد أصدرت دار الساقي لحسن الترابي في مطلع الألفية الثالثة كتيباً من 84 صفحة من القطع الصغير بعنوان (المصطلحات السياسية في الإسلام). وأسهم الطقس السياسي الذي ظلل سماء هذه البلاد في أعقاب تداعيات مذكرة العشرة في ألا يجد هذا الكتيب، رغم الجهد العلمي الرصين، حظه من النقاش. ولكن دارت دورة الأيام وتبدّل الطقس السياسي في اتجاه بدا معه الترابي أكثر إيجابية في البحث بعلمه وفكره وخبراته وحيويته عن حلول جديدة للأزمات والعلل المزمنة التي تمسك برقاب الجميع. ينبّه الترابي في المقدمة إلى أن (اللغة التي تعبّر عن الحياة السياسية في بيئة ما، إنما تتطور اتساعاً في التصريف ورسوخاً في المعاني مع تطور تلك الحياة والثقافة نمواً واستقراراً أو بؤساً واضطراباً). وينبّه أيضاً إلى أن المسلمين قد يضطرون لابتداع كلمات جديدة تستوعب مفاهيم سياسية عارضة على تقاليد الثقافة. ويقدم مثالاً على هذا التنبيه فقديماً كانت تنتشر كلمة (دار الإسلام) وحديثاً تملأ حياتنا كلمة (الحكم الاتحادي). مصطلحات الترابي " لغة الكتابة عن المصطلحات قبل كتاب الترابي هذا أقرب إلى مسؤول رسمي يطلق التصريح ونقيضه من برجه العاجي، دون أن يرف له جفن أو يرصد ردود أفعال تصريحاته " ويسير الأمر على هذا الشكل مع مصطلحات الترابي، فلغته تنسف حاجز اللغة المراوغة، ولا يحاول أن يبدو مثقفاً كي يبتعد بنا عن أصل الموضوع باجترار أسماء وتعريفات. ولكي نفهم هذا النص علينا أن ندرك حال لغة الكتابة عن المصطلحات ونقارنها بحالها مع محاولة الترابي في هذا الكتاب، خاصة أن الحضارة الغربية حينما غزت المسلمين نزلت عليهم تعابير من غير ما عَهِدوا من قيم ونظم وعلاقات ووسائل ومصطلحات غربية. لعل لغة الكتابة عن المصطلحات قبل كتاب الترابي هذا أقرب إلى مسؤول رسمي يطلق التصريح ونقيضه من برجه العاجي، دون أن يرف له جفن أو يرصد ردود أفعال تصريحاته. ولعل ميزة د. الترابي أنه لم يتعاشر مع هذا المسؤول الرسمي منذ أن سطع نجمه السياسي في أكتوبر 1964، إلى أن أحيل إلى التقاعد عن العمل السياسي الرسمي في ديسمبر 1999م. لذا فهو من السياسيين القلائل الذين يعلمون كيف يستدعون هذا المسؤول الرسمي إلى بيوتهم فيخلع عنه بذته الرسمية ليرتدي (عرّاقي وسروال) الحياة العريضة، حيث تُرفع الكلفة ويُحبس الترابي السياسي ويبدأ الترابي المفكر الكتابة. مفكِّر مثير اشتهر الدكتور حسن الترابي بأنه مفكِّر مثير للجدل، فكتابه الأول (الإيمان وأثره في حياة الإنسان) الصادر في مطلع السبعينيات الميلادية كان فتحاً جديداً ليس على مستوى الحركة الإسلامية داخلياً، وإنما امتد تأثيره على صعيد الحركة إقليمياً ودولياً. غير أن المشكلة أن إنتاج الترابي الفكري لم يجد حظه من النقاش إذ أن غلبة الجدل حول المواقف السياسية طغت على شخصية المؤلِّف، لدرجة أن شخصية الترابي المفكر قد اختفت أو تاهت أو تراجعت أمام شخصية الترابي السياسي، والأمثلة كثيرة، ولا يسعها المجال. والشاهد هنا أن هذه الأسطر تسعى لإبراز جهد علمي راقٍ جاء في سبيل التواضع على لغة فصيحة جميلة في التعبيرات والاصطلاحات السياسية العربية، والتيسير السمح لوسيلة التواصل والتفاهم والتحاور بين الألسن والثقافات السياسية. من المهم جداً الإشارة إلى أن الكتاب احتوى على محاولة لضبط المعاني لنحو 23 مصطلحاً تملأ حياتنا العامة. ويحطّم الكتاب التصوّر الخاطئ عن الحياة العامة، من حيث منشطها الأحمى (السياسة) ووقع السياسة فيها الأفعل (الحكم) وقوة الحكم العليا (السيادة) وإطار السيادة الأسمى (الدولة) وما وراءها. مصطلح الحياة " تسير رحلة المصطلحات بين دفتي الكتاب الذي يثبت أن الكاتب المجدّ ليس مجرد باحث يلتزم صرامة المنهج، بل مفكر مغرم بالتجديد لدرجة أنه لا يهجر تجريد المنهج طوعاً ليقيم في منهج الواقع ويملأه فكراً وتجديداً " والقضية هنا أن مصطلح الحياة العامة لم يكن فاشيّاً في الماضي عند المسلمين، لأن حياتهم إذ تدهور بهم تديّنهم أصبحت بغالبها خاصة، والعام منها في صلات المجتمع والسياسة فتر بدينهم المنحسر وقصر على أهل دوائر السلطان وحدهم. وهكذا تسير رحلة المصطلحات بين دفتي الكتاب الذي يثبت أن الكاتب المجدّ ليس مجرد باحث يلتزم صرامة المنهج، بل مفكر مغرم بالتجديد لدرجة أنه لا يهجر تجريد المنهج طوعاً ليقيم في منهج الواقع ويملأه فكراً وتجديداً. إن أقل ما يفعله الكتاب، هو أنه يثبت في كل صفحة منه خطأ هذا التصوّر المثالي المغلوط عن المفكّر السياسي أو السياسي المفكّر بشكل عام، وعن الترابي بشكل خاص. في كتاب المصطلحات السياسية في الإسلام نقابل الترابي، وهو يعمل على نقل الواقع ورسمه من داخل اللغة، فلا يكاد القارئ يدرك أثناء القراءة أهو في مجال الكلام أم في مجال الواقع، ولا يعود يميز متى يخرج من الواقع ويسبح في اللغة. مسار المعادلة إن ما يفعله الترابي بالقارئ هو بالضبط قلب مسار المعادلة التي استقرت طويلاً فيما سبق، على أن الكاتب هو الذي يغوص في الخيال ويحاول أن يغوي القارئ بالغوص معه، ويبقى الأمر بيد القارئ ليقبل الغواية أو يرفضها. وعند استعراض تعريف المصطلحات نصادف أن الترابي في تعريفه لمصطلحات مثل: السياسة، الحكم، السيادة، الدولة، الأمة، الشعب، إلخ، يتمثل في الانطلاق من الأصول بهدف إعادة تشكيله وفق الحالي، وكأنما يحاول حشد أكبر كمية من الواقع داخل حقيبة فن لغة الترابي، فتبقى لغته مهددة بالانفجار في كل لحظة، ومع انفجارها ينفجر الوعي بأهمية (التعبير بمنطوق عربي معهود المعنى أو بتعريف جديد من جذر عربي صائب الدلالة). وحصيلة هذا الجهد عند الترابي أن (يدخل المصطلح الجديد إلى موسوعة الثقافة السياسية ويمضي بمدلوله الصحيح بأصل معناه أو مثقلاً بمعنى إضافي محمول). طبقات ود ضيف الله " رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن الناس ربما عادوا مرة أخرى إلى حفيد الترابي الذي نجح بطريقة فريدة في تحويل محاولاته الكتابية في النبش عن مدلول واقعي للمصطلحات السياسية عبر البحث عن المعاني والعلاقات، إلى نقش جديد يحاول أن يضيف جديداً إلى واقع السياسة العربية المعاصر " عَودُ إلى كتاب طبقات ود ضيف الله في طبعته التي أعد هوامشها القاضي الشرعي إبراهيم صديق أحمد ونشرتها الدار السودانية للكتب العام 2007، خرج الجد الأكبر للترابي، الشيخ حمد النحلان من السجن في مكةالمكرمة التي أُهدر دمه فيها بكرامة فحواها أن أمطاراً وأعاصير قد دمّرت السجن، مما سهل له العودة للسودان. وبعد انتشار أمره قصده طلاب الحاجات، ومن الكرامات الكثيرة المنسوبة للشيخ حمد ظهرت عبارة (الناس واقعين ود الترابي). ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن مناسبة استخدام العبارة أن الناس ربما عادوا مرة أخرى إلى حفيد الترابي الذي نجح بطريقة فريدة في تحويل محاولاته الكتابية في النبش عن مدلول واقعي للمصطلحات السياسية عبر البحث عن المعاني والعلاقات، إلى نقش جديد يحاول أن يضيف جديداً إلى واقع السياسة العربية المعاصر.