د. بليغ حمدي إسماعيل هناك قاعدة استثنائية تكرست في مصر منذ النجاح المبدئي لثورة الخامس والعشرين من يناير مفادها أنه كلما تسيدت الانتخابات الرئاسية كلما ظهرت ملامح الود والتقارب تجاه أهل الحب وهم الطرق الصوفية الممتدة في شرق وغرب مصر المحروسة، وجدنا هذا في الانتخابات الرئاسية التي انتهت نتائجها بصعود مرشح جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، ونجد نفس الحالة اليوم من خلال جملة من الأخبار الصحافية التي تشير جاهدة إلى استطلاع آراء أصحاب وأنصار الطرق الصوفية في مصر بشأن أبرز الأسماء التي تصلح لاعتلاء كرسي الحكم لإدارة العباد والبلاد في المرحلة المقبلة. والمشهد السياسي الراهن يفيد أن للصوفيين في مصر دوراً ومهمة ستبدو كبيرة وذات دلالة في العملية الانتخابية والأيام التي تسبق إحداثيات انتخابات رئاسة الجمهورية، وربما يفطن المستقرئ لتاريخ العلاقة الجدلية بين جماعة الإخوان المسلمين والصوفيين من جهة، وبين أنصار التيار السلفي والصوفيين من جهة أخرى، والتي يتوقع من خلال نتائجها تحفز الطرق الصوفية وتحمسها لتأييد مرشح على حساب آخر، رغم أن تاريخ التصوف الإسلامي يشهد عزوفاً حاداً عن السياسة لاسيما وأن أهله مهمومون بقضايا تتعلق بالزهد والعشق الإلهي وحياة العزلة. وهذا الاستقراء جاء مبكراً حينما لم يدرك وزير الأوقاف الأسبق الدكتور طلعت عفيفي، والذي جاء في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي أنه فتح النار على نفسه وعلى وزارته وقتها بل وعلى جماعته التي صعدته لسدة الوزارة بسبب تصريحاته الاستفزازية والمضطربة بعض الشئ ضد الصوفيين وهم الفئة التي لم تزأر بعد لأن زئيرها جلل والتاريخ بدفاتره شاهد على حضور الصوفية في المشهد السياسي بقوة حينما كان يغري صمتهم تارة ومواجيدهم ومقاماتهم تارة أخرى آذان وعقول الخلفاء في الدولة الإسلامية. فالوزير ساعتها أعلن باختصار منع إقامة أية حضرات للذكر داخل المساجد التي هي في الأصل بيوت الرحمن وليست ملكاً للوزارة إلا بورقة تستطيع قوى الثورة أن تمزقها مائة قطعة صغيرة، ولم يكتف الوزير السابق بذلك، بل وصل الأمر به إلى تحريم الصلاة في المساجد التي بها قبور أولياء الله الصالحين أو ما اتفق على تسميتهم بأهل الحب وهو حب الله تعالى. وكأنه بذلك يحاول استرضاء التيارات الدينية المتشددة التي حرمت من قبل الصلاة أو حتى مجرد الجلوس في تلك المساجد التي هي في الأصل بيوت للعبادة. وربما أن الوزير السابق لم يدرك حتى كتابة هذه السطور أنه بفعلته تلك كاد يحدث فتنة كبيرة داخل أنساق المجتمع الذي هو في أمس الحاجة إلى التكاتف والتعاطف بين أهله وجماعاته التي أصبحت محظورة ومنحلة قضائياً بل ومطالبة التوقيف الشرطي لبعض أعضائها نظراً للضلوع والاشتراك والتحريض على أعمال عنف وإرهاب مدنيين، بجانب أن فكرة توحيد الصف باتت من أجل الرؤى المطروحة لإعمار مصر لا لتخريبها أو تشجيع المخربين على هذا. وربما أن امتناع وزير الأوقاف الأسبق الدكتور طلعت عفيفي عن حضور المناسبات الدينية التي تقيمها الطرق الصوفية في مصر لهو مدعاة لمزيد من الامتقاع والغضب من جانب أقطاب ومريدي هذه الطرق والوزارة بأسرها وليس الوزير فحسب. وهذا ما لم ينساه الصوفيون في مصر حتى اليوم، بل لعل بعضهم اتجه صوب المشهد السياسي الراهن وراح يدشن حملات موجهة تبين فساد المعتقد وخلل الهدف لدى الجماعة. والمدهش في الأمر تجاه تصريحات الجماعة المتمثلة في وزير الأوقاف الأسبق طلعت عفيفي، أن بعضاً من زعماء هذه الطرق أصدروا تصريحات مفادها أن حضور الوزير من عدمه لا ولن يزيد من الأمر شيئاً، ولكن محاولات الكر المتعددة تلك تجاه الطرق الصوفية تعيدنا إلى حقيقة الهجوم الخفي غير المعلن ضد الطرق الصوفية في مصر، فبالرغم من أن التصوف يتمتع بمكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يرى غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام. وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم. وبالفعل وجدنا كثيراً من الصحف غير القومية والمواقع الإخبارية الإليكترونية تقدم ملفات كاملة لتاريخ التصوف الإسلامي في مصر، وكأنها بهذا الدور تؤكد على أهمية سلاح الصوفيين والطرق الصوفية في معركة الانتخابات الرئاسية لاسيما وأن الإحصائيات التي أتهمها بالافتقار إلى الدقة تشير إلى أن نسبة الصوفيين في مصر تتجاوز الخمسة عشر مليونا وهو بالفعل عدد كبير يمكنه حسم المعركة من الجولة الأولى. وسواء قبل أهل التصوف في مصر ومن انضم إلى طرقه ومذاهبه وأطيافه الدخول في المشهد السياسي الذي سيستعر قبيل الانتخابات الرئاسية أو رفضوا الدخول، فهم اليوم مجبورون طوعاً أم كرهاً على الزج باسمهم وببطاقتهم الانتخابية لاسيما وأن تاريخهم السياسي إن جاز التعبير يشهد بعزوفهم عن المناصب والمقاعد والمصالح الدنيوية وبلغة السياسة الرسمية اليوم فهم بعيدون الهمة والمقصد والتوجه عن تولي أية حقيبة وزارية في الحكومات المقبلة، لأنهم ذوو تربية استثنائية تأبى الولوج إلى عالم ملئ بقواعد الممكن والمستحيل، وهم مكلفون كما يعتقدون بقواعد ثلاثة كما أشار بذلك الإمام النووي وهي العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووفقاً لتلك القواعد بمسألة الاهتمام السياسي أو الحزبي لأهل التصوف في مصر غير واردة على الإطلاق. وربما يقين من سيترشح مستقبلاً في الانتخابات الرئاسية بأهل التصوف من حيث إنهم يمتلكون فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقياً، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية معينة تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً، وثمرتها السعادة الروحية، ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع وذاتية، والابتعاد عن زخرف الحياة ومباهجها ومن ثم فتنتها، سيغريهم كثيراً لنيل أصواتهم أو بصورة تقريبية تحقيق رضاهم الاجتماعي من أجل الصعود إلى سدة الحكم. وهذه المرة سيكون المرشحون أكثر وعياً بتلبية حاجات المواطنين، فهم يريدون التوفيق بين قدرة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة على التنظيم والتحشيد، وبين الالتزام الديني والحرص على الفرائض والطاعات والنوافل والإذعان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموجود لدى التيارات والجماعات السلفية، وهذا التوفيق يجعلهم يهرعون مسرعين صوب الصوفيين وطرقهم وجماعاتهم المختلفة. لأنهم باختصار يعرفون مسبقاً أن وعودهم الانتخابية ستواجه بعض الاحتقان والرفض وربما السخرية والاستهزاء أيضاً سوى من مؤيدينهم وأنصارهم، وهم قد مروا بتجربة مشروع النهضة الذي روج له الرئيس المعزول لكنه لم يطبق بالطبع كونه غير موجود إلا داخل الكتيب الذي حمل اسمه، كما أن المرشح القادم يسعى لكي يهرب من فخ التصنيف الذي أصبح هوساً لدى المصريين منذ ثورة يناير، وبات كل مواطن يصنف المرشح وفق لفظة تلفظ بها سهواً في برنامج حواري، أو تعليق صدر منه على حين غفلة من خلال تحقيق صحفي، فهذا ليبرالي وهذا سلفي متطرف، وذاك سلفي معتدل، وهذا علماني يدشن للدولة المدنية، وهكذا. أما الصوفيون فهم بمعزل حقيقي عن التصنيف السياسي المرفوض، لأنهم باختصار شديد أصحاب فكر وطريقة تفكير رصينة؛ فكر يستنجد بالدين وتعاليمه وشرائعه السمحة التي لا تعرف للتطرف سبيلاً، ولا تفطن للغلو طريقاً، وأسلوب تفكير يرتكز على التأمل أو ما يعرف بنظرية السلام الداخلي، وهذه النظرية تمثل أعلى درجات التحصيل للإنسان وهي وصوله إلى نقطة تنعدم عندها كل رغباته بحيث يستحيل إنساناً كريماً مع الجميع ولا يطلب شيئاً من أحد مطلقاً لأنه في حالة وصال واتصال مستدامة مع ربه تبارك وتعالى. لذا فهم أفضل وجه يمكن تقديمه للناخبين لاسيما وأن المواطن المصري بطبيعته يميل إليهم ويجد فيهم ميلاً وعزوفاً عن المعارك السياسية التي تقف من ورائها المصالح والمنافع وتحقيق أكبر قدر من السيادة. والمراهنة المرتقبة التي ربما سيلجأ إليها بعض المرشحين للرئاسة نحو الصوفيين قد تجد قبولاً وارتياحاً لدى المرشح نفسه، واطمئناناً وارتياحاً لدى الناخبين لسبب قد يبدو أكثر ضرورة في ظل الحالة السياسية الراهنة في مصر لعدة أسباب وعوامل، فالتصوف في مصر مذاهب وطرق شتى وهو الأمر الذي يقبله واقع الحراك الديموقراطي السائد حيث رفض وجود جماعة أو فصيل بعينه يريد استلاب الوطن واستقطابه لناحيته لتحقيق أهدافه وطموحاته، وسيظل الرئيس القادم غير مرهون بمرشد أو أمير أو جهة عليا تملي شرائطها وتفرض ضوابطها عليه وعلى الشعب، نظراً لأن أصحاب المذاهب والفرق الصوفية الأصليين يرقدون في سلام كونهم موتى مثل سيدي أبي الحسن الشاذلي وسيدي أبي الحجاج الأقصري وسيدي أحمد الفولي وسيدي الرفاعي وسيدي أحمد البدوي وغيرهم من أصحاب المذاهب الصوفية. ثمة عامل آخر يدفع بعض المرشحين للجوء إلى ورقة الصوفيين وهو يترقب مشهد الانتخابات الرئاسية المقبلة، هذا العامل هو تاريخ التصوف والصوفيين المتسم بالتسامح والسلام الداخلي، فكثير من الوقائع الضاربة في القدم وقليل من الحالات المعاصرة واجه التصوف وأقطابه وأنصاره حملات من التطاول والنيل من سمعته وإلصاق بعض البدع ومظاهر الزندقة به، وكم من مغتر سعى في الأرض ليلتقط بعض المثالب التي يمكن أن يوجهها إليهم، لكنهم في كل نازلة يقدمون درساً لطيفاً لمن يهاجمهم عن طريق الاحتكام للشرع والعقل معاً، ومن خلال تطبيق خارطة طريق واضحة المعالم والرؤى تبعث سلاماً داخلياً سرعان ما تحقق أهدافها في رد الكيد والعداء تجاههم، لاسيما وأنهم قد تخلصوا من رغبات الدنيا وفتن السياسة واجتهدوا في العبادة والطاعات ولم يكترثوا بجمع المال والبحث عن الجاه والنفوذ والتباهي بكثرة الأنصار، ونجد ذلك في نصوصهم، فهذا أبو الدرداء يقول: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل، فإن أحسنت حمدت الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل". والحسن البصري يقول: "رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعني وإياك يراد". وربما يكون من قدر التصوف أن يدخل اللعبة السياسية مضطراً لأنه اليوم الوجه النظيف الذي لم يعكره فساد السلطة أو حلم الخلافة أو وهم التقليد، وربما يكون الصوفيون في مصر الورقة الرابحة والحصان الأسود الذي سيصل بمرشح ما إلى قصر الاتحادية. د. بليغ حمدي إسماعيل