يبدو أن الظلال السياسية لما حدث في مصر خلال الفترة القصيرة لحكم الإخوان المسلمين، كانت لها تأثيراتها القوية على النظام الحاكم في السودان. حيث سعى لتجنب تكرار سيناريو الإزاحة الشعبية معه، إلى السيطرة على مفاتيح المؤسسة العسكرية، عبر إحكام قبضته على مفاصلها الرئيسية، ووضع عدد من قياداتها المخلصة في صدارة المشهد رسمياً، من خلال جراحة سياسية، طاولت أيضاً الإمساك بزمام أمور الحركة الإسلامية، لما تملكه من دور معنوي وشعبي مؤثر في كثير من القضايا السودانية. ومن خلال هاتين الأداتين يعتقد نظام الخرطوم أنه نجح في ترميم الشروخ والاستعداد لمواجهة التحديات الخارجية. لكن لأن هناك شروخاً دخلت مرحلة الكسر، ومشاكل تزايدت على جانبي النهر، لذلك فالبيت قد لا يجدي معه الترميم الأخير. القرار الذي اتخذه الرئيس عمر البشير بشأن تغيير قيادات نافذة في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، أحدث ردود فعل متفاوتة، فالبعض اعتبره انقلاباً ناعماً من داخل القصر للتخلص من رموز شاخت في مواقعها. والبعض الآخر نظر إليه على أنه عملية جراحية لتجميل وجه النظام ومواجهة التظاهرات المتضخمة في الشوارع. وهناك فئة تعاملت مع المسألة على أنها خطوة لترتيب أوراق البيت الرئاسي في المستقبل القريب، فالتغيير في الجزء الوزاري يبدو عادياً، لكن غير العادي أن يقوم الرئيس البشير بإبعاد نائبه الأول على عثمان محمد طه وتعيين الفريق أول بكري حسن صالح بدلاً منه، وتنحية نائبه الدكتور الحاج آدم وإدخال الدكتور حسبو محمد عبد الرحمن بدلاً منه، وإقصاء الرجل القوي نافع على نافع من موقع مساعد الرئيس واختيار إبراهيم غندور في المنصب ذاته، بالإضافة إلى إجراء تغييرين مهمين في البرلمان، حيث جري تنصيب الفاتح عز الدين رئيساً للمجلس الوطني بدلاً من أحمد إبراهيم الطاهر الذي استقال أخيراً، وعيسى بشرى نائباً لرئيس المجلس الوطني بديلاً من سامي أحمد محمد، الأمر الذي حمل مجموعة من الإشارات والدلالات السياسية. لعبة الكراسي الموسيقية تقول القراءة الظاهرة إن التغيير جاء لتجديد الدماء وحماية النظام من التشققات التي بدأت تأكل حزمة من أركانه، غير أن الإمعان في القراءة يقول أشياء أخرى. أهمها، محاولة امتصاص موجة الغضب العارم لدى قطاعات عريضة من الرأي العام، والتي أخذت المعارضة على عاتقها عملية توظيفها سياسياً، وتصدير صورة توحي بالتناغم بين الحماسة والنقمة في صفوف المواطنين والخطط والترتيبات التي تُعد لها قوى في المعارضة، على أمل الوصول إلى صيغة شعبية لإطاحة النظام، على الطريقة المصرية. وأقدم البشير على خطوة التغيير في قمة النظام لنزع فتيل أي تحركات عنفية متوقعة، ولتحاشي ضرباتها القاتلة، فالتضحية برموز تاريخية أهون من العصف بنظام بأكمله أصبح معرضاً للانهيار في ظل ارتفاع في وتيرة الاحتقانات، بسبب الارتفاع الرهيب في الأسعار واستثمار متصاعد للاحتجاجات، ناهيك عن صدامات مسلحة في غرب البلاد وجنوبها، وعلاقات متوترة مع أقرب الجيران (جوبا والقاهرة)، وفوق ذلك عدم استبعاد اشتداد الهجمة الخارجية على قاعدة انتهاكات حقوق الإنسان. من جهة ثانية، وفرت هذه الأجواء الفرصة لبعض القيادات لأن تتطلع إلى المنصب الكبير، خصوصاً أن الرئيس عمر البشير صرح قبل نحو عام بعدم رغبته في الترشح لفترة رئاسية جديدة العام 2015، بما أعطى انطباعات أن الرجل يريد التنحي في هدوء، إيثاراً للسلامة، فبدأت عجلة التكهنات تشير إلى شخصين، هما علي عثمان طه ونافع على نافع، والقريبون من دهاليز السلطة والحكم في السودان يعرفون أن كليهما لديه طموحات ويملك أوراقاً تعزز مكانته لتحقيق تلك الطموحات، لكن المؤسسة العسكرية النافذة كان لها رأي آخر، كما أن ثقة البشير نفسه في الرجلين ليست على المستوى المطلوب، فالدكتور على عثمان طه، عنده شبكة جيدة من العلاقات مع جهات غربية، في مقدمها واشنطن، ومعروف أنه عراب اتفاق نيفاشا للسلام الذي تم توقيعه عام 2005 والذي منح الجنوب حق تقرير المصير ثم الانفصال. ويخشى البشير من أن تؤدي التقاطعات المريبة له إلى الإطاحة به وهو في السطة، أو تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية بعد خروجه منها، كما أن نافع الغامض نجح خلال السنوات الماضية في نسج شبكة أمنية أصبحت تهدد بعض القيادات العسكرية والسياسية، ووفرت له قاعدة بيانات من السهولة توظيفها لخدمة مصالحه. عصفوران وحجر واحد التغيير الأخير جاء لضرب هذين العصفورين بحجر واحد، لمصلحة المخلص دائماً للبشير وللمؤسسة العسكرية وللحركة الإسلامية، الفريق أول بكري حسن صالح، ففي كل المناصب التي تولاها، وزيراً للدفاع ثم وزيراً في رئاسة الجمهورية وقبلهما عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ، كان أميناً في نصائحه ووفياً في خدماته ومطّلعاً على أكثر الملفات حساسية، كما أن وضعه في منصب نائب الأمين العام للحركة الإسلامية العام الماضي جعله يجمع بين أهم غطاءين في السودان (المؤسسة العسكرية والحركة الإسلامية). والتكهنات التي تتحدث عن تجهيزه ليحل محل البشير في الانتخابات المقبلة لم تأت من فراغ، فبالإضافة إلى الصفات الشخصية والمؤهلات الحزبية والولاء للمؤسسة العسكرية ووفائه لقائده البشير، هو لن يضحي به عقب دخوله القصر. وهذا الهاجس يشغل الرئيس السوداني منذ فترة، وكان قلقاً من انتهازية على عثمان طه، ولا يثق في نياته إذا تمكن من إزاحته، خصوصاً وأن تجربة معلمه حسن الترابي لا تزال ماثلة في الأذهان، فطه انحاز للبشير في الخلاف الشهير مع الترابي العام 1999، وضرب عرض الحائط كل تعاليم أستاذه، وتأكدت براغماتيته في مواقف متعددة، وظل الرجل محتفظاً بمكانته في القصر، وأوقف زحف كل هجوم حاول الاقتراب منه. كانت عملية إبعاد علي عثمان طه من قلب الحركة الإسلامية قبل نحو عام، النواةَ لما حدث معه أخيراً، وفتحت الباب للتخلص منه سياسياً بطريقة سلسة. وكذلك الحال مع نافع، الذي بقي لفترة طويلة يعمل في الظلام، مثل الخفافيش، وعندما بدأ يطل بوجهه ويدس أنفه في قضايا مختلفة، أثار حفيظة جهات متباينة. الواقع أن التركة في السودان ثقيلة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، حتى يقال إن التغيير في الأشخاص يمكن أن يفضي إلى تغيير في السياسات، ومن ثم يشعر المواطن العادي بتحسن تدريجي في مستوى معيشته، وتنخفض معدلات التوتر في الأقاليم المختلفة، وتثق قوى المعارضة في إمكان إدخال إصلاحات تفتح المجال لتوافق وطني حقيقي، والعملية الخاطفة التي قام بها البشير خلال الأيام الماضية لا تخرج عن كونها محاولة للدفاع عن نفسه وتأمينها من احتمالات الغدر التي قد يقدم عليها بعض من كانوا قريبين منه. كما أنها تنطوي عن رغبة لتحاشي التغيير الخشن الذي يمكن أن تجد المؤسسة العسكرية نفسها مضطرة إليه، في ظل التدهور الحاصل في غالبية مناحي الحياة، لأنها المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تملك مفاتيح الحل والعقد في السودان. وحتى حزب المؤتمر الوطني الحاكم أدت الخلافات التي يتعرض لها لإصابة حركته بالترهل، ما أغرى بعض القوى السياسية على توجيه سهام كثيفة إلى صدور عدد من قياداته الحالية، وربما انسلاخ غازي وجماعته لن يكون الخروج الوحيد. إذا كان عمر البشير حسم موقفه النهائي بعدم الترشح في الانتخابات المقبلة، فإن المرشح البديل الأوفر حظاً سيكون نائبه الأول الفريق أول بكري حسن صالح، بسبب جمعه بين صفات أهم دائرتين، المؤسسة العسكرية والحركة الإسلامية. والعملية الجراحية الدقيقة التي أجريت أزالت من أمامه عقبتين سياسيتين. ويبقى أن تظهر عليه كرامات هذا الانتماء، ليس في الإمساك بدفة الأمور، بل في قدرته على إشعار الناس أن تغيراً حقيقياً طرأ في البلاد. لأن الاستمرار في مسلسل الفشل لن يطيح به مبكراً فقط، لكن يمكن أن يعصف بجميع رؤوس النظام الظاهرة والخفية، فالغضب في نفوس المواطنين وصل ذروته، وبصورة لم تعد تفلح معها أي مسكنات اقتصادية أو مهدئات سياسية. * كاتب مصري